القرن الـ 21: عصر التكتلات الإقليمية

عندما يتتبع المرء تطور النظام الدولي الراهن والمتغيرات الدولية يمكنه التوصل إلى الملاحظات الآتية:


* أولاً: إن العصبيات القومية تتعمق وتتفاقم، وليس المقصود هنا تلك العصبيات التي تعبر عنها أحزاب وحركات اليمين المتطرف في بعض المجتمعات الصناعية بصورة خاصة . ولكن المقصود هنا هو “القومية المؤسسية” المترسخة بين النخب الحاكمة في بعض الدول الصناعية أو في بعض الدولة الصناعية الحديثة .


* ثانياً: جنباً إلى جنب مع انتشار هذه الظاهرة في مجتمعات كثيرة، فإنه يمكن القول إن الدولة – القومية، أو بالأحرى دولة الأحادية القومية، لم تعد أساساً حصرياً للنظام الدولي . فهناك أكثر من منافس للقومية على حيازة هذه المكانة العالمية . ويعزو البعض تراجع هذه المكانة الحصرية للقومية إلى ثغرة رئيسة فيها ألا وهي أنها لم تتمكن من تقديم تفسير مقنع ومتماسك لنشوء الدول ولتكوين المجتمعات البشرية . قدمت تفسيرات معقولة لنمو الظاهرة القومية عندما ربطت بينها وبين عامل اللغة كعنصر أساس في تكوين المجتمعات البشرية، ولكنها لم تقدم تفسيراً مقنعاً عندما أعلنت أنه ينبغي أن يكون لكل قومية دولة مستقلة، ولكل دولة مستقلة قومية واحدة تنهض عليها .


* ثالثاً: إن العولمة هي أول المرشحين وأبرزهم لمنافسة الدولة – القومية، بحيث عادت إلى التداول اليوم الأحاديث التي راجت خلال الحرب العالمية الثانية عن قيام الحكومة العالمية والبرلمان العالمي . ورغم أن بعض الذين دعوا إلى إحياء هذه الأفكار توخوا الوصول من خلالها إلى تمكين شعوب العالم من المشاركة في صنع واقعها ومستقبلها، ففي الواقع أنه جرى توظيف مثل هذه الدعوات في خدمة نزعات الهيمنة في العلاقات الدولية، ما أدى إلى إضعاف هذه الدعوات وتراجعها .


رابعاً: مع تراجع وتعثر العولمة، بدت مشاريع التكتل الإقليمي – الأقلمة – كمنافس أكثر صدقية للدولة القومية على مكانتها بوصفها ركناً وحيداً للنظام الدولي . إن هذه التكتلات، وخاصة الاقتصادي منها، تسير في خط تصاعدي مستمر ليس على حساب المكون القومي للكيانات الدولية فحسب، وإنما أيضاً على حساب مشاريع العولمة، كما يلاحظ ريتشارد بولدوين أستاذ الاقتصاد الدولي والمستشار الاقتصادي السابق في إدارة جورج بوش الأب . ويمكن القول إنّ ما يتردد عن نمو التجارة العالمية هو في الأساس نمو في التجارة داخل التكتلات الإقليمية، وليس نمواً بين دول العالم أو بين التكتلات الإقليمية في العالم . ويجزم بولدوين أنه خلال سنوات قليلة سوف تتحول هذه التكتلات الإقليمية، بسبب تكاثرها وانتشارها في المجتمع الدولي وترسّخ مكانتها، إلى محور التجارة العالمية، وبالتالي إلى المرتكز الأول للكيانات البشرية بدلاً من منظمة التجارة العالمية .


يعزو البعض، تطور التكتلات الإقليمية على حساب الدولة الدولة القومية أو الدولة الترابية، إلى جملة عوامل يأتي في مقدمتها ما يلي:


1-التطور الكبير على صعيدي الاقتصاد والمواصلات . فالأسواق تتوسع باستمرار تحت ضغط التنافس وبحث المنتجين عن زبائن جدد لتسويق منتجاتهم، وتلبية لهذه الحاجات يأتي التطور في المواصلات ومد شباكها بحيث تتجاوز الدولة الترابية . هذا ما تعتزم دول مجلس التعاون الخليجي -على سبيل المثال لا الحص ر- تحقيقه بإنفاق ما يقارب مئة مليار دولار خلال العقد الراهن على بناء نحو 6000 آلاف كلم من السكك الحديدية والطرق السريعة التي تربط دول المجلس ببعضها بعضاً، فيسهل التنقل والتجارة بين وعبر دولها .


2-المنافع المالية التي تحققها السلطات الرسمية والأفراد معاً، فالكيانات الكبرى، حتى لو لم تكن دولة موحدة، تتمكن من تخفيض نفقاتها عبر الاستغناء عن العديد من الإدارات والأعباء والمهام المتراكمة والمتكررة التي تتطلبها الوحدات التي تتكون منها هذه الكيانات . مقابل توفير المبالغ الهائلة في النفقات . قد تبرز هنا وهناك نفقات إضافية بسبب تأسيس التكتلات الإقليمية . فميزانية الاتحاد الأوروبي السنوية تصل إلى ما يفوق المئة مليار يورو . هذا يعني أنه على كل مواطن ومواطنة أوروبي دفع ما يقارب 220 يورو إلى الاتحاد . ولكن هذه الضريبة تشكل مبلغاً ضئيلاً مقارنة بالمنافع الكثيرة التي يحصل عليها الأوروبيون من جراء قيام الاتحاد، وبالمقارنة أيضاً مع النفقات الكبرى التي يمكن الاستغناء عنها مع كل خطوة تخطوها دول الاتحاد على طريق التكامل والتكتل .


3-إن التكتلات الإقليمية تقدم ضمانة أكبر لقيام النظم الديمقراطية واستقرارها . في شرحه لأفضلية الكيانات الكبرى على الصغرى، قال جيمس ماديسون، زعيم الفيدراليين الأمريكيين في رده على دعاة الانفصال والتفكك، إن “الأكثرية في المجتمعات الصغيرة أو حتى المتوسطة الحجم قد تجنح، بحكم عدد سكانها ومواطنيها إلى انتهاك حقوق الأقليات، أما في المجتمعات الكبيرة فإنه سوف يكون من الأصعب على هذه الأكثرية أن تكتشف قوتها العددية وأن تتصرف كعصبة موحدة ضد الأقلية الضعيفة وإن تسلبها بالتالي حقوقها وحرياتها” . يضاف إلى هذه الحقيقة الموضوعية أن قيام التكتلات الإقليمية رافقه اهتمام صريح من قبل هذه التكتلات بدعم مشاريع التحول الديمقراطي داخل الإقليم . بدأ هذا المسار مع السوق الأوروبية المشتركة التي تمكنت من نشر هذا التحول في سائر الدول الأوروبية شرقاً وجنوباً . بموازاة ذلك، تحولت المنظمات الإقليمية في أمريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا وأخيراً إفريقيا إلى أدوات لتعميم الديمقراطية والتطور السياسي السلمي، حيث تدخلت قوات الاتحاد الإفريقي أو قوات المنظمات الإقليمية الفرعية انتصاراً للسلطات الشرعية المنتخبة .


4-أسهمت التكتلات الإقليمية في حماية الدول الأعضاء من مشاريع الهيمنة الدولية . هذا ما يلمسه المرء بوضوح في أمريكا اللاتينية حيث قدمت سوق أمريكا الجنوبية (ميركوسور) شبكة أمان سياسي واقتصادي للدول الأعضاء لكي تتمكن من ولوج طريق التنمية السريعة والتحول الديمقراطي . كذلك أسهمت هذه التكتلات في تحقيق سلام إقليمي بين الدول الأعضاء وحتى على المستوى الإقليمي الأشمل . الإنجاز الأهم على هذا الصعيد كان على مستوى القارة الأوروبية التي لبثت لقرون بؤرة للحروب الدولية . بيد أن هذا الإنجاز لم يقتصر على الأوروبيين فحسب، وإنما تكرر في أمريكا اللاتينية وشرقي آسيا، حيث وجدنا رايات السلام تخيم على العلاقات بين دول كانت منخرطة في الحروب وصراعات عنيفة مثل إندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة .


إن الواقع العربي الراهن يسير في خط معاكس للمسار الدولي المتمثل في نهوض التكتلات الإقليمية في العالم . فبينما أعيد تكوين النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية على أساس ترسيخ التكتلات الإقليمية في العالم، وبينما بدأ العرب في تأسيس نظامهم الإقليمي الرائد قبل قيام النظام الدولي وقبل قيام العديد من التكتلات الدولية بما فيها السوق الأوروبية المشتركة، وبينما تتوافر في المنطقة العربية الأسس المتينة لقيام تكتل إقليمي راسخ وناهض، نجد أن النظام الإقليمي العربي في تراجع مستمر، وأن القوى الكبرى والمتوسطة غير العربية تتطلع إلى الدول العربية كمجال حيوي لكي تتبضع فيه ما يطيب لها من المغانم السياسية والاقتصادية، ومن بسط النفوذ والهيمنة على حساب مشاريع التكتل العربي . هذا الواقع لا يتنافى مع المصالح العربية فحسب، وإنما يتنافى أيضاً مع مسار السياسة الدولية التي تؤكد بصورة متزايدة على أهمية التكتلات الإقليمية وعلى أن هذه الكيانات لا تنشأ من فراغ، ولكنها تتأسس استناداً إلى مقومات موضوعية منها ما هو جغراسي ومنها ما هو اقتصادي مصلحي ومنها ما هو ثقافي لغوي

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *