تراجع يا مرسي قبل الطوفان

من المعروف أن الرئيس محمد مرسي حصل في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية على 25 في المئة من أصوات الناخبين، وفي الجولة الثانية فاز بالرئاسة بحوالي 51 في المئة، وذلك بفضل أصوات القوى المدنية والديموقراطية، وبفضل كل من لم يرغب التصويت للفريق أحمد شفيق، أحد رموز نظام مبارك المخلوع. ولم تفلح الأصوات المنادية آنذاك بالتصويت ضد مرسي وشفيق في مهمتها، وكاتب هذه السطور كان من هذه الأصوات.

ولم يلتزم مرسي بما وعد به بعض القوى المدنية والديموقراطية قبيل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في يونيو / حزيران من العام الجاري، حيث وعدهم بإعادة التوازن لتأسيسية الدستور، ووعدهم أيضا بأن يكون رئيسا لكل المصريين. وهو في ذلك لم يخرج عن سلوك جماعة «الإخوان المسلمين» منذ اندلاع ثورة «25 يناير» في مصر.

فقبل يوم واحد من الثورة، أعلنت هذه الجماعة في بيان رسمي أنها لن تشارك في تظاهرات «25 يناير». وقبل سقوط مبارك في فبراير/ شباط دخل «الإخوان» في مفاوضات مع عمر سليمان، وفي نهاية الشهر المذكور، أعلنوا أنهم لن ينافسوا إلا على 30% من مقاعد البرلمان. وفي 19 مارس / آذار من العام الماضي أصبح التصويت «بنعم» على الإعلان الدستوري، الذي أصدره المجلس العسكري، واجباً شرعياً، والتصويت بــ«لا» كفراً، حسب وجهة نظرهم. وفي أبريل/ نيسان قال «الإخوان» إنهم لن يرشحوا أحدا للرئاسة. وفي يوليو/ تموز تظاهر «الاخوان» والسلفيون تأييدا للمجلس العسكري ولتطبيق الشريعة، ورفعوا شعارهم الشهير «يا مشير أنت الأمير». وفي أغسطس/ آب أعلنوا أنهم سينافسون على 50% من مقاعد البرلمان، وأكدوا من جديد أنهم لن يرشحوا رئيسا تحت شعار «مشاركة لا مغالبة». وفي نوفمبر/ تشرين الثاني أعلنوا أن أحداث محمد محمود تهدف لنشر الفوضى وتعطيل الانتخابات البرلمانية. وفي ديسمبر / كانون الأول 2011 أعلنوا أن شهداء أحداث مجلس الوزراء «بلطجية»، ويقف خلفهم مخطط أجنبي. وفي مارس / آذار 2012 رشح «الإخوان» الشاطر للرئاسة، وطرحوا مشروع «النهضة». وبعدها بشهر رشحوا محمد مرسي للرئاسة، وأخذوا مشروع «النهضة» من الشاطر وأعطوه لمرسي. وفي أغسطس/ آب من العام الجاري، كرموا طنطاوي وعنان بقلادة النيل، وفي الشهور التالية حاولوا السيطرة بقوة على التأسيسية وكتابة الدستور الجديد لتمكينهم من السلطة تمكيناً تاماً في مصر.

وفي الثاني والعشرين من الشهر الجاري أصدر الرئيس مرسي ما يسمى بالإعلان الدستوري، استباقا لحكم المحكمة ببطلان التأسيسية ومجلس الشورى، الذي لم يشارك في انتخابه إلا 7 في المئة فقط من المسجلين في كشوف الناخبين. إن إعلان مرسي الدستوري تضمن بعض «البهارات» بهدف إسالة شهية المواطنين، مثل إعادة النظر في محاكمة رموز النظام السابق، وعزل النائب العام. وكان يمكنه عمل ذلك من دون إعلان دستوري عن طريق إصدار مراسيم رئاسية لها قوة القانون (فالرئيس لديه حاليا السلطة التشريعية بجانب كونه رأس السلطة التنفيذية). ولكن جوهر إعلان مرسي الدستوري غير المبرر هو تحصين قراراته بأثر رجعي، وتحصين حل التأسيسية ومجلس الشورى أمام القضاء. وبذلك يسيطر مرسي على السلطات الثلاث في مصر «التنفيذية والتشريعية والقضائية»، تمهيدا «لتمكين» جماعته، وفتح الطريق أمام عودة الديكتاتورية والاستبداد، ومن ثم القضاء على أحلام ثورة «25 يناير» في الديموقراطية والدولة المدنية.

إن المصريين، الذين صوّتوا لمرسي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، انتخبوه «رأساً للسلطة التنفيذية» وحسب، ولم ينصبوه «فرعوناً جديداً» يحتكر كل السلطات، هو وجماعته. ويقول مؤيدو مرسي إن إعلانه الدستوري مؤقت ولمدة قصيرة حتى يتم الاستفتاء على الدستور الدائم «الملغوم»، الذي أعدته التأسيسية المشكوك في شرعيتها. ولكن هل الديكتاتورية يمكن أن تكون موقتة؟ وكيف يمكن الاستفتاء على دستور دائم للبلاد في ظل أوضاع استثنائية يغتصب فيها فرد واحد كل السلطات بدعم من جماعته وتيار الإسلام السياسي؟ إن ما يُطرح على أنه وضع موقت، قد يتحول إلى وضع دائم، هكذا علمتنا الخبرة التاريخية في مصر، وفي غيرها من دول العالم.

على مدار العامين الماضيين، لم يختلف عمليا سلوك «الإخوان المسلمين» عن سلوك مبارك ونظامه، إذ واصلت وتواصل الجماعة وذراعها السياسية حزب «الحرية والعدالة» سياسة «التكويش» و«التمكين»، لتتحول بذلك إلى حزب «وطني» جديد على غرار حزب المخلوع. وعلى المستوى الاقتصادي، تعيد الجماعة ورئيسها وحزبها إنتاج نظام مبارك، وإن كان بعمامة إسلامية. ويتمثل ذلك في تقوية سلطة رجال الأعمال في مواجهة الكادحين والفقراء، والتخلي عمليا عن العدالة الاجتماعية، التي كانت أحد الأهداف الرئيسية لثورة يناير. ومن تجليات ذلك، الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، وما أدراك ما شروط صندوق «النكد» الدولي. واتضح خلال خمسة شهور من حكم الرئيس مرسي أن مشروع «النهضة»، الذي بشرت به الجماعة، هو محض خيال، كما صرح خيرت الشاطر نفسه منذ عدة شهور. وتشير بعض المصادر إلى أن حجم نفوذ الجماعة في الاقتصاد المصري يقدَّر بنحو 28 بالمئة، وبإجمالي مشاركة فى الناتج القومي لا تقل في المتوسط عن حوالي 70 مليار دولار.

لقد انقلب مرسي بإعلانه الدستوري على «ديموقراطية الصندوق»، ولذلك انتفضت عليه قطاعات واسعة من الشعب المصري في ميدان التحرير وميادين مصرية أخرى، في مشهد ثوري جديد، مطالبة بالعودة إلى أهداف ثورة يناير «حرية ـ كرامة ـ عدالة اجتماعية». وبعبارة أخرى بناء الدولة المدنية الديموقراطية الدستورية الحديثة، التي تحقق العدالة الاجتماعية. وهو ما لا يرغب في سماعه أو فهمه «الإخوان» ومن معهم. وبالرغم من أن مرسي أدخل مصر في أزمة خطيرة، وشق الصف في المجتمع، إلا أن إعلانه الدستوري وحّد صفوف القوى المدنية والديموقراطية، ونشكره على ذلك بالطبع. بيد أن إصراره على عدم التراجع عن قرارته يعني في ما يعني إصرار جماعته والإسلام السياسي على احتكار السلطة، حتى لو كان الثمن إحراق مصر وشعبها وإغراقها في صدامات شوارع. وأعتقد أن مرسي ومن معه سيستمرون في المراوغة، ومحاولة فرض الاستفتاء على دستور لم يتم التوافق عليه، مقابل إلغاء أو تعديل «إعلانه الدستوري» غير الدستوري أصلا. الأمر الذي سيؤدي حتما إلى تفاقم الأزمة، والدخول إلى نفق مظلم.

 
تراجع يا مرسي قبل فوات الأوان.. تراجع قبل الطوفان.. واخلع «العمامة الدينية»، واذهب إلى التوافق والوفاق لتكون رئيسا لكل المصريين. أما العناد، فلن يُفيد، لأنك، في نهاية المطاف، ستتحمل مع جماعتك وأتباعك المسؤولية الكاملة عن خراب مصر.. فللثورة شعب يحميها.

كاتب وصحافي مقيم في موسكو

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *