أردوغان بين “الفاتح” و”القانوني”

لفت يوم الأحد الماضي الهجوم العنيف الذي شنّه رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان على المسلسل التركي الشهير “حريم السلطان” . لم يكن ذلك خلال حوار أو في مجالس خاصة بل أمام جمهور كبير بات واضحاً من خلاله مدى المحافظة التي يتصف بها ولا سيما بين النساء .


انتقاد أردوغان للمسلسل الشهير الذي شاء مدبلجوه إلى العربية تغيير اسمه الأصلي “القرن العظيم” إلى اسم يدغدغ العواطف الذكورية لدى المجتمعات العربية من خلال التركيز على العنصر النسائي في الاسم وهو دأب مدارس الاستشراق في الرسم والسينما والفنون عموماً، انتقاد أردوغان هذا يحمل الكثير من الدلالات والمعاني التاريخية والسياسية .


لم يتردد أردوغان نفسه من إبداء الإعجاب بالفيلم السينمائي التركي “الفتح 1453” والذي حرّف اسمه أيضاً إلى العربية ليصبح “السلطان الفاتح 1453” بقوله للقيمين على الفيلم “سلمت أيديكم” .


لم يبد رئيس الحكومة التركية أي انتقاد لفيلم “الفتح” فيما كال التهم لمسلسل “حريم السلطان” . قال أردوغان إن هذا المسلسل لا ينتمي إلى أجدادنا . أجدادن الم يكونوا كذلك . وسليمان القانوني لم يكن كذلك، وهذه الأحداث لم تحصل في القصر العثماني . ومنتجوه يجرحون كرامة الشعب . ودعا أردوغان القضاء إلى اتخاذ الخطوات المناسبة في هذا المجال من دون أن يفصح عن طبيعة الخطوات التي يقصدها .


قبل مدة اجتمع نواب من حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان ب 36 نائباً مع عناصر من حزب العمال الكردستاني . وانتقد أردوغان ذلك داعياً القضاء إلى التحرك لرفع الحصانة عن النواب الذين التقوا “إرهابيي” حزب العمال .


القاسم المشترك بين الموقفين هو أن السلطة السياسية تتدخل في عمل القضاء والإيحاء له بالتحرك بل بما يجب أن يقرر . وهذا يسيء إلى أدنى معايير الفصل بين السلطات القاعدة الأهم في الممارسة الديمقراطية .


الملاحظة الثانية أن الموقف السياسي والأيديولوجي هو الذي يتحكم بالنظرة إلى المسائل الفنية . انتقد أردوغان مسلسل السلطان سليمان القانوني لأنه لا يعكس كما يجب عظمة عثمانية تجسدت في عصر القانوني، ويصوّر قصر السلطان والسلطان نفسه على أنه مرتع للملذات ومكائد الحريم . لكن أردوغان لم ينتقد فيلم السلطان محمد الفاتح لأنه يعكس عظمة عثمانية .


وفي كلتا الحالتين أردوغان مخطىء، فمسلسل القانوني كما فيلم الفاتح يجتزئان الحقائق التاريخية، ويقدمان صورة منقوصة عن واقع تلك الفترة .


من أهم ما يتجاهله فيلم الفاتح أنه يصور السلطان محمد الفاتح رؤوفاً متسامحاً مع سكان القسطنطينية بعد الفتح خالعاً عليهم الأمان . لكن الحقيقة أن الفاتح قد أطلق العنان للجنود العثمانيين لاستباحة المدينة والأعراض وسلبها لمدة ثلاثة أيام متكاملة . كما يسيء الفيلم إلى الديانة المسيحية بتصوير ان الله لم يستجب لدعاء السيدة مريم العذراء أم النبي عيسى عليه السلام لتجنيب المدينة السقوط بيد العثمانية .


أما مسلسل القانوني فكان واضحاً في التركيز على الجانب الحريمي من حياة السلطان سليمان القانوني ومكائد النساء والجواري والحمامات السلطانية مخاطباً الغرائز وهو ما كان للأسف وراء تغيير اسم المسلسل إلى ما هو عليه بالعربية . في حين أن عصر السلطان القانوني كان من أعظم عهود الدولة العثمانية لجهة التشريعات القانونية حتى سمّي السلطان سليمان بالقانوني، وكان من عهود الفتوحات الكبيرة في أوروبا والتوسعات في الشرق .


لم يكن سليمان القانوني ملاكاً ولا كامل العظمة، وليس خالياً من السلبيات الكثيرة ومنها مغامراته النسائية وفي عهده بالذات بدأت تتشكل عوامل الانحدار العثماني ومنها تسلط الحريم على مركز القرار السلطاني .


ولم يكن محمد الفاتح السلطان المثال في القوة والعظمة، بل كان أيضاً شأنه شأن أي حاكم يكبر فيستبد ويسن سنّة قتل الإخوة ولا يعفي الأعداء من فظاعات جيشه خصوصاً بعد فتح اسطنبول .


إن إسقاط الواقع الحالي على أحداث الماضي هو من أكبر الأخطاء التي ترتكب من جانب السياسيين وأي إنسان آخر . هذا عمل المؤرخين والباحثين حصراً لأنها مهنة البحث والتنقيب والتدقيق وليست مهنة رجل سياسة يريد توظيف الماضي لأهواء تناسبه .


وفي النهاية يبقى فيلم محمد الفاتح ومسلسل القرن العظيم عملين فنيين وليسا وثائقيين لنحاسبهما عن الحقيقة التاريخية . والفن لا يفلّه إلا الفن، وليس الأحكام السياسية المؤيدة أو المعارضة .

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *