قراءة في أزمة الرأسمالية العالمية

1)

ودع العالم العقد الأول من الألفية الثالثة بسلسلة من الأحداث والتطورات، تركت بصماتها الواضحة على النظام الدولي في ميادينه الإقليمية والمحلية. فبعد حالة ركود في مختلف مناحي الحياة، عاشت المنطقة العربية، وما زالت، تحولات واسعة، ليست بمعزل عن تدخلات دولية في شؤونها، تحولات من شأنها أن تترك آثارها على النفوذ والمصالح الدولية المتصارعة في المنطقة وامتدادا في العالم.

تحول الإرهاب بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 إلى شأن دولي، إذ هزت تلك العملية الإرهابية قلاعا، كانت الإدارة الأميركية تعتقد أنها محصنة، وأطلقت موجة عالية من هيستيريا الحروب العدوانية، التي تورطت فيها واشنطن، وعادت عليها بخسائر لا يمكن التقليل من تداعياتها، على المستويين السياسي والإقتصادي. شنت الولايات المتحدة الأميركية حربين عدوانيتين ضد كل من أفغانستان والعراق، صاحبتهما هيستيريا إيديولوجية تقرن على نحو فظ بين الإرهاب والإسلام. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد حققت في الحرب على أفغانستان والعراق نصرا عسكريا سريعا في البداية، غير أنها سرعان ما وجدت نفسها متورطة في حروب عادت عليها بخسائر فادحة من جراء الغرق في مستنقعاتها. دخلت سياسة الولايات المتحدة بعد تورطها العسكري في مأزق أخذ يتفاقم ويضغط في ضوء خسائرها المالية والبشرية نحو ضرورة مراجعة أولويات إهتماماتها الإستراتيجية، خاصة في ظل تداعيات الأزمة المالية التي إنفجرت في العام 2008 إنطلاقاً مما سمي بأزمة الرهن العقاري، وكذلك في ضوء عودة روسيا الإتحادية إلى مسرح السياسة الدولية وبروز قوى دولية أخرى صاعدة كالصين والهند.

 

هده الحروب أنهكت الإقتصاد الأمريكي فضلا عن الإقتصاد البريطاني، ما دفع بالإدارة الأمريكية برئاسة باراك أوباما في مطلع العام 2009 إلى الإعلان عن تغيير الأسلوب في إدارة الحرب على الإرهاب لتقدم نفسها بأنها في حرب محدودة مع تنظيم القاعدة والإرهابيين المرتبطين بهذا التنظيم وليست في حرب عالمية على الإرهاب أو على الإسلام. هذه الإستدارة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية كانت متوقعة، بل وحتمية بعد أن تجاوزت خسائرها في العراق وحده 600 مليار دولار فضلا عن الخسائر البشرية، التي فاقت أربعة الآف قتيل.

(2)

هكذا بدأ المشهد السياسي يتكشف عن إنحسار متدرج لتفرد القوة العظمى الأميركية الطاغي في إدارة العالم وتطويع دوله وترويعها بالحروب الإستباقية والتجاوز على السيادة الوطنية، كما بدأ يتكشف عن تراجع في التعامل مع الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها وأجهزتها، ما إنعكس سلباً على مكانتها وعزز منحى الفوضى في العلاقات الدولية.

على خلفية هذا المشهد وفشل سياسة واشنطن في إدارة حالة ما بعد النصر العسكري في كل من أفغانستان والعراق، وجدت الإدارة الأميركية نفسها أمام خيارات صعبة بفعل عدم قدرتها – في ظل ظروفها الإقتصادية المالية المتراجعة- على تحمل تبعات تلك الحرب وكلفتها المالية الباهظة وخسائرها البشرية، واستنزاف موارد خزينتها العامة، فلجأت الى الحروب السرية وإلى الحروب التي تعتمد على آلة القمع المحلية والجيوش الخاصة أو جيوش المرتزقة، فضلا عن العقوبات الإقتصادية على الدول، دون ان تتخلى عن استراتيجيتها العدوانية القائمة ـ من بين أمور أخرى ـ على السيطرة على منابع النفط في المنطقة وفي العالمين العربي والإسلامي الممتد من إيران في الشرق إلى موريتانيا في الغرب ومن جمهوريات آسيا الوسطى في الشمال الى منابع النفط في نيجيريا والسودان في الجنوب.

بدأ مشروع الهيمنة الأميركي يصطدم بتحديات واسعة ومتعددة الأشكال بعد الصعود السريع لعدد من الدول الكبرى في آسيا كالصين وروسيا والهند وبعد تشكيل منظمة شانغهاي، التي يتسع نفوذها بالتعاون مع اليابان، ما يؤهلها لاحتلال موقع متقدم عالميا على الأصعدة الإقتصادية والدفاعية، وتشكيل مجموعة دول «البريكس» (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا).

هذه التطورات أدت الى تراجع رهان واشنطن على القوة الصلبة والإحتلال العسكري المباشر ودفعت الإدارة الأميركية الى العمل على إمتصاص الغضب الشعبي في العالمين العربي والإسلامي وبذل المزيد من الجهود من اجل تحسين صورتها البشعة في ضوء سياستها المنحازة بشكل أعمى للسياسة العدوانية التوسعية لدولة اسرائيل ومواقفها من القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. وبخسارتها معركة السيطرة الأحادية على الشرق الأوسط وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى التعاون مع القوى الأخرى والإعتراف بمصالحها دون الإقرار بدورها كشريك، للحيلولة دون نشوء حالة فراغ في المنطقة لا تستطيع السيطرة عليه أو التحكم بتداعياته ونتائجه بعد أن خسرت الدول العربية التابعة لها قدرتها على ملء حالة الفراغ تلك. لم تكن التحديات التي طرحت نفسها نتيجة وحسب لفشل سياسة الإدارة الأميركية في المنطقة، بل وكذلك نتيجة حتمية لسياسة دول عربية كانت تستدعي الحماية في ظل مشروع هيمنة اميركي بدأ عده العكسي يميل ـ وإن ببطء ـ نحو الإنحسار.

(3)

هذه السياسة العدوانية للولايات المتحدة شكلت القاعدة الأساس لمصالح المجمع الصناعي العسكري وشركات النفط الأميركية. فقد بنى هذا المجمع الصناعي العسكري قوة عاتية تحولت الى مؤسسة فائقة النفوذ ـ منذ النصف الثاني من القرن العشرين ـ تابعة للقطاع الخاص وتعتمد عليها القوات الجوية والبرية والبحرية ووكالات المخابرات والأمن القومي ومخابرات الدفاع وحتى الشبكات السرية. إمبراطورية المجمع الصناعي العسكري تزيد نفقاتها الشهرية عن 15 مليار دولار، وهي فقط النفقات المخصصة للحروب الخارجية وعمليات التجسس والمراقبة، ولا تشمل بالطبع ما تنفقه الإدارة الأمريكية على أكثر من ألف قاعدة عسكرية تنتشر في نحو 177 دولة.

في هذا السياق، يبدو الجدل الجدي القائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول إحتواء الدين العام والسياسة الضريبية وسقف الموازنة وهيكلها وما يخصص فيها لبنود التعليم والتقديمات الإجتماعية الخ..، هذا الجدل – رغم عمقه الخلافي – لا يقرب جانب الحقيقة الصلبة في النظام الرأسمالي القائمة على الإتحاد بين صناعة الأسلحة والبنتاغون الذي يسهم قبل غيره في رفع الدين العام الأميركي الى أكثر من 14 تريليون دولار، خاصة وأن الموازنة العسكرية للولايات المتحدة تعادل 50 بالمئة من مجموع الإنفاق العسكري العالمي، لعدد من السكان لا يزيد عن 5 بالمئة من سكان العالم. وهذا يعني أن الإدارة الأميركية تنفق على مؤسستها العسكرية أكثر من الدول العشرين التالية الأكثر إنفاقا مجتمعة وأكثر بكثير مما تنفقه ولاياتها الخمسين مجتمعة على الصحة والتعليم والشؤون الإجتماعية والسلامة العامة.

هذا الإنفاق الهائل على الموازنات العسكرية، لتلبية إحتياجات الحروب العدوانية نما بمعدلات قياسية خلال العقد الأخير وهو يتواصل على الرغم من الأزمة المالية العالمية، التي تلقي بظلالها على مجالات الإنفاق المدنية في الكثير من الدول الرأسمالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة. فقد إرتفع الإنفاق العسكري العالمي من 1.44 تريليون دولار عام 2001 الى 1.63 تريليون دولار عام 2010، اي ما يساوي نحو 2.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكانت القفزات المذهلة على هذا الصعيد من نصيب الولايات المتحدة الأميركية، حيث إرتفع من 379 مليار دولار الى 698 مليار على التوالي.

هذا الإنفاق على الشؤون العسكرية الذي يوجهه المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة الأميركية يحفز عديد الدول، كالصين وروسيا والهند.. على مجاراة واشنطن في سجل الإنفاق العسكري للحفاظ على حد أدنى من التوازن وكبح الجموح نحو الهيمنة المطلقة، مثلما يحفز دولا أخرى على مشتريات السلاح على حساب مشاريع التنمية الإقتصادية والإجتماعية في بلادها، وعلى حساب النهوض بمجتمعاتها، كما هو الحال في دول الخليج العربي ودول الشرق الأوسط، التي وصل إنفاقها على التسلح أرقاما فلكية بمئات مليارات الدولارات في العام 2010، وهو ما بات يفرض على القوى الحريصة على التنمية مهمات جسيمة في فضح وتعرية طبيعة النظام الرأسمالي للحد من صناعة الموت التي تغذيها الولايات المتحدة ويقودها هذا المجمع الصناعي العسكري، الذي يشكل أحد الأذرع الرئيسية لنزعات الهيمنة والسيطرة داخل الولايات المتحدة ذاتها كما وعلى النطاق الدولي.

لا تتجلى الطبيعة المتوحشة للرأسمالية وحسب في هذا الميل المتزايد للإنفاق على التسلح، على حساب الرعاية الصحية والإجتماعية ومخصصات التقاعد والتعليم وغيرها من الخدمات، التي يتطلبها التوزيع العادل للثروة، بل إن طبيعتها المتوحشة تمتد على مساحة واسعة من ميادين حياة أوسع الفئات الإجتماعية. يتضح ذلك من خلال الهجوم الواسع على حقوق هذه الفئات الإجتماعية وما حققته من مكاسب وإنجازات قبل إنهيار الإتحاد السوفيتي والأنظمة الإشتراكية في أوروبا وصعود المحافظين الجدد وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وما رافق ذلك من سياسات إجتماعية وإقتصادية.

(4)

أنتج التوسع الرأسمالي منذ البداية إستقطابا وفرزا طبقيا على المستويين الوطني والعالمي، غير أن التفاوت في توزيع الثروة في المراحل الأولى لتطور الرأسمالية بين 80 بالمئة من سكان العالم كان في حدود ضيقة، لكنه بعد قرنين من التوسع الرأسمالي أصبحت المعادلة مختلفة، إذ قفز هذا التفاوت أضعافا مضاعفة واتسعت الهوة بين بلدان المركز الرأسمالي وغيرها من بلدان المعمورة، حيث قام منطق التوسع الرأسمالي على أساس الميل إلى تكوين سوق عالمية للمنتجات ورؤوس الأموال لم يصاحبه عمليات توسع في أسواق العمل عالميا، بقدر ما أنتج علاقة تبعية بين رأسمالية المركز والطبقات الحاكمة في الأطراف، المرتكزة إلى بورجوازيات كومبرادورية وبيروقراطية تابعة.

وفي مراحل لاحقة من عمليات التوسع الرأسمالية وما صاحبها من إستقطابات وقعت تحولات ثورية فتحت الآفاق أمام تطور التوسع الرأسمالي على أسس جديدة وفي أشكال متباينة وتوازنات مختلفة على الصعيد الدولي عملت لصالح العمال والفلاحين والكادحين وفئات إجتماعية واسعة في كل من بلدان المركز الرأسمالي، كما في غيرها. وعبرت تلك التحولات عن نفسها بالثورات الإشتراكية وثورات حركات التحرر الوطني، ما ساهم في إعادة تشكيل عملية إستقطاب في دول الرفاه بالغرب والدول الإشتراكية في الشرق ودول الإستقلال الوطني الحديث (الدول النامية)، التي أخذت تشق طريقها في التحرر وفي التنمية مستفيدة من الإستقطاب السياسي الجديد، ووجدت الأنظمة الرأسمالية نفسها مضطرة إلى تقديم سلسلة من التنازلات لجماهير العمال والفلاحين والفئات الوسطى في ميادين الرعاية الصحية والضمانات الإجتماعية ومعاشات التقاعد وغيرها. وجرى في هذا السياق ضبط عمليات التوسع والتراكم الرأسمالي بأشكال متعددة ساهمت في إعادة توزيع الثروة وتخفيف التفاوت بين الفقر والغنى وفي إرتفاع معدلات الأجور وإنخفاض معدلات البطالة وفي إقامة نظام ضمانات إجتماعية فعال، وفتحت الأبواب أمام نمو ملحوظ لشرائح الطبقة الوسطى.

مع إنهيار الإتحاد السوفياتي وعدد من الدول الإشتراكية وتراجع دور حركة التحرر الوطني وجدت الرأسمالية في طورها النيوليبرالي فرصتها لمد هيمنتها وبسط نفوذها على العالم، فقد سقطت أو تراجعت النماذج الثلاثة، دول الرفاه في الغرب والدول الإشتراكية في الشرق ودول الإستقلال الوطني الحديث، واختل التوازن الذي قام عليه التطور الإقتصادي العالمي واستأنفت الرأسمالية هجومها على مكتسبات العاملين في دول الرفاه وعلى مشروع الدولة الوطنية في البلدان النامية، كما على مكتسبات الشغيلة في الدول الإشتراكية السابقة، وفرضت في ظل سياسة المحافظين الجدد والنيوليبرالية المعولمة شروطها على العالم بكف يد الدولة عن التدخل في إقتصاد السوق وباتباع سياسة خصخصة القطاع العام وبدء التراجع عن المكتسبات الإجتماعية. وهكذا إنفتح التطور الإقتصادي العالمي على سلسلة من الأزمات أفضت الى إنخفاض معدلات النمو خاصة في دول المركز الرأسمالي الغربي، فيما إنقسمت دول الجنوب والدول النامية إلى دول تساهم من موقع الصعود في تشكيل النظام الرأسمالي العالمي وأخرى تردت أوضاعها تحت ضغط السياسة النيوليبرالية إلى موقع هامشي في هذا النظام.

في ظل هذه السياسة، التي فرضتها النيوليبرالية المعولمة تفاقم التفاوت في توزيع الثروة بين دول المركز الرأسمالي والدول النامية وارتفعت معدلات البطالة بما في ذلك في البلدان الرأسمالية المتقدمة وانتقلت مظاهر الفقر في الدول النامية بسبب الهجرة من الريف إلى العواصم والمدن الرئيسية وتدهورت أوضاع الفئات الوسطى وصعدت في دول المركز الرأسمالي الغربي طبقة جديدة فاسدة تسيطر على رأس المال المالي، تتركز الثروة في أيديها وتمارس نشاطات طفيلية تراكم ثروتها من خلال المضاربات وتحريك كتل مالية ضخمة في الأسواق الدولية دونما إرتباط بالإنتاج السلعي.

عادت هذه السياسة بالكوارث على دول العالم النامي، وبدا واضحا أن آفاق التنمية قد أغلقت في وجه شعوبها وأن التخلص من الفقر لا تساعد عليه الوصفات والأوامر الصادرة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إذا ما واصلت الدول إنسحابها من الحياة الإقتصادية ولم تسيطر على إقتصاد السوق والحركة التجارية وتمارس نشاطها في ضبط وتقنين حركة الأسواق.

واذا كانت النيوليبرالية المعولمة لم تساعد دول المركز الرأسمالي الغربي تحديدا في السيطرة على أزماته الإقتصادية والمالية، فإنها عادت بالكوارث على الدول النامية وعمّقت التفاوت في توزيع الثروة على صعيد الإقتصاد العالمي. وإذا ما أخذنا أحدث بيانات البنك الدولي عن التنمية في العالم، فإنه يتبين لنا أن الوصفات والأوامر الصادرة عن البنك قد فاقمت مشكلات الفقر في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل في العالم وعمقت الهوة في توزيع الثروة على الصعيد العالمي، حيث لا يستحوذ مجموع سكان العالم في هذه الدول والبالغ نحو 5.3 مليار مواطن سوى على 14 بالمئة من الناتج المحلي العالمي الإجمالي، في حين يستحوذ 1.7 مليار من مجموع سكان العالم على نحو 86 بالمئة من هذا الناتج.

ويعمق هذا التفاوت الكبير في توزيع الثروة على الصعيد العالمي الشعور بعدم المساواة والشعور بالظلم الإقتصادي، ما يدفع الشعوب إلى التحركات الإجتماعية، التي تأخذ أحيانا شكل ثورات، كما هو الحال في ما يجري في العديد من البلدان العربية والى الإضرابات وحركات الإحتجاج الواسعة كما هو الحال في عدد من البلدان الرأسمالية وخاصة في دول الإتحاد الأوروبي كشكل من أشكال التمرد على العولمة النيوليبرالية وتدفع بفئات إجتماعية جديدة للمشاركة في حركة الإحتجاج، كما هو الحال بالنسبة لشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، التي تدهورت أوضاعها ووجدت نفسها حتى في البلدان الرأسمالية المتقدمة تتعرض للضغط والإنكماش تحت وطأة الأزمات الإقتصادية والمالية.

(5)

من الواضح أن النيوليبرالية التي تهيمن عليها وتوجهها الولايات المتحدة هي بداية حقيقية لمرحلة إنحدار تنذر بتفاقم يتعاظم لأزمة النظام الرأسمالي برمته. لا تؤشر على ذلك فقط الثورات وحركات الإحتجاج والإضطرابات، التي تهب على مجتمعات عدة سواء في المركز أم في الأطراف، بل وكذلك تداعيات أزمات حادة تعيشها دول المركز الرأسمالي كتداعيات أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة والعجز الهائل في موازنتها العامة وأزمة الديون السيادية في القارة الأوروبية.

لقد أفلست السياسة التي نادت باقتصاد السوق والحرية الإقتصادية وحرية حركة التجارة وسعت إلى القفز فوق السيادة الوطنية للدول، كما أفلست السياسة التي ركزت هجماتها على السياسات الإجتماعية، التي تلجأ لها الدول للسيطرة على قوانين السوق، مثل دعم صناديق الضمان الإجتماعي وإعانات البطالة والرقابة على الأسعار وتوفير الدعم للخدمات، التي تحتاجها الطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود، كدعم السلع الأساسية والعلاج المجاني أو متدني الكلفة فضلا عن الإسكان والتعليم، وقدمت تجربة النيوليبرالية نفسها على حقيقتها باعتبارها وراء الأزمات والعجوز في الموازنات العامة والديون فضلا عن الركود الإقتصادي والتضخم.

لقد بات العالم يبحث عن عولمة بديلة تحد من سطوة وهيمنة أدوات العولمة الراهنة وما يصاحب ذلك من تحد لسلطة الإحتكارات، التي تضخم نفوذها على نحو غير مسبوق كاحتكار التكنولوجيا الحديثة وما يصاحبه من إعادة تقسيم غير عادل للعمل والإنتاج واحتكار السيطرة على المؤسسات المالية ذات النشاط العالمي وخاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، واحتكار السيطرة على الموارد الطبيعية، فضلا عن إحتكار وسائل الإعلام وإحتكار إنتاج أسلحة الدمار الشامل وأنظمة التحكم والسيطرة والتدخل في شؤون الدول وإنتهاك سيادتها.

إن دول المركز الرأسمالي الغربي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع مواصلة السير على هذا الطريق، فطاقات الولايات المتحدة دون الطموح في ظل العجز الكبير في موازناتها العامة والخلل الواسع في ميزان علاقاتها التجارية، ولأنها كأكبر مستورد للأموال تتحول إلى حالة طفيلية تمتص النصيب الأوفر من الفائض المنتج خارج أسواقها. كما لا تستطيع دول المركز الرأسمالي الغربي مواصلة التحكم بالأزمات المرافقة للعولمة الليبرالية الجديدة، فالنظام الإقتصادي التي تتبناه وتدافع عنه تسيطر عليه حفنة من تجمعات الإحتكارات، التي تحاول إحكام القبضة على القرارات الجوهرية في الإقتصاد العالمي، من مصارف وشركات تأمين وتجمعات أخرى تسهم دون شك وإن من موقع أضعف في الإنتاج الصناعي والخدمات.

(6)

على هذا المستوى يُلاحظ أن المركز الأساس للقرار الإقتصادي قد إنتقل من إنتاج القيمة المضافة في القطاعات الإنتاجية إلى إعادة توزيع الأرباح المتحققة من التوظيفات المالية. وفي مثل هذا النظام الإقتصادي حيث تنمو البنى الإنتاجية بمعدلات ضعيفة، فإن النظام بحد ذاته لا يستطيع الصمود أمام الأزمات من خلال الهروب إلى التوظيفات المالية. وتبدو مشكلة هذا النظام الإقتصادي واضحة إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن حجم التبادلات المالية كان يزيد على ألفي تريليون دولار في بداية أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام 2008 بينما إجمالي الناتج المحلي على الصعيد العالمي كان فقط 44 تريليون دولار.

مثل هذا الخلل، الذي يعبر عن أزمة النظام الرأسمالي في ظل العولمة النيوليبرالية لم يكن على هذا النحو قبل ثلاثين عاما، حيث كانت المبادلات التجارية تجري في سياق تغطية عمليات الإنتاج والتجارة الداخلية، كما التجارة العالمية، وهو ما يؤشر بوضوح على أن الأزمات التي يمر بها العالم هي أزمة النظام الرأسمالي، فخلف الإنهيار المالي، والركود الذي صاحب أزمة الرهن العقاري وخلف أزمة الديون السيادية الأوروبية ترتسم معالم هذه الأزمة.

لقد دفع العالم أثمانا باهظة نتيجة أزمة الرهن العقاري الأميركية، التي عبرت عن وجه بشع من أوجه الرأسمالية المتوحشة والطفيلية، فقد تدحرجت كرة ثلج ضخمة إنتقلت من الولايات المتحدة الى العديد من البلدان الأوروبية والآسيوية وإلى البلدان العربية كذلك، التي تجاوزت خسائرها 1.4 تريليون دولار بسبب ضخامة الودائع الخليجية بشكل خاص في البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية والأمريكية إضافة الى خسائرها الأخرى المباشرة نتيجة ملكيتها الأم وحصص كبيرة في مؤسسات مالية وفي بنوك امريكية واوروبية، في حين لم تكن الآثار سلبية على تلك الدول، التي وضعت لاقتصادها حاجزا من الإستقلالية عن سياسة المحافظين الجدد وسياسة العولمة النيوليبرالية، كما كان حال دول مجموعة الـ «بريكس».

لقد تسببت تلك الأزمة الإقتصادية بتباطؤ واضح في معدلات النمو العالمية، حتى وصلت في العام 2009 إلى معدلات سالبة، كما تسببت في إرتفاع معدلات البطالة وتدهور أوضاع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى ولم توقف سياسة الإنحدار نحو الهاوية التسهيلات الكمية الضخمة، التي ضختها الخزانة الأميركية في الأسواق بقدر ما ساعدت معدلات النمو العالية وتحديدا في مجموعة دول البريكس في وقف كرة الثلج المتدحرجة لتعطي النظام الرأسمالي العالمي حقنة تساعده على وقف التدهور. أزمة الرهن العقاري كشفت الوجه الحقيقي لرأسمالية متوحشة وطفيلية مازالت تداعياتها تلقي بظلالها على الإقتصاد العالمي، وأزمة الديون السيادية هي بدورها تقدم النظام الرأسمالي على حقيقته كنظام إقتصادي متهالك، فهذه الديون السيادية هي في جوهرها قنبلة موقوته يمكن إذا ما انفجرت أن تطال شظاياها النظام الرأسمالي برمته، خاصة وأن معظم هذه الديون مملوك لدول وجهات خارجية وأي توقف عن خدمتها ينطوي على إحتمالات إفلاس كبيرة.

(7)

لا تمتلك الرأسمالية في طورها النيوليبرالي حلولا بنيوية لأزماتها، بقدر ما تلجأ إلى حلول ظرفية مؤقتة تعيد – بعد حين – إنتاج أزماتها على نحو أكثر خطورة. فسياسة التقشف والهجوم على حقوق ومكتسبات العاملين تفاقم من حدة تناقضاتها وكذا هو الحال مع إنسحاب الدولة من النشاط الإقتصادي وإطلاق العنان لاقتصاد السوق. وعندما تجد الرأسمالية نفسها عاجزة عن السيطرة على أزماتها على هذا النحو فإنها تهرب الى الحلول الأسوأ، مثل حلول التسهيلات الكمية بمليارات الدولارات تصدرها بنوكها المركزية بهدف شراء الأصول المالية من البنوك والمؤسسات المالية لزيادة حجم الكتلة النقدية الفائضة لديها والإستفادة منها في تقديم القروض للشركات والأفراد. تبدأ المطابع الحكومية في العمل، غير أن هذا العمل كما هو الحال مع التسهيلات الكمية التي يصدرها الإحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) لا يقابلها الغطاء الضروري أو الذهبي أو أي انتاج سلعي له قيمة إستعمالية أو تداولية، ما يؤدي إلى التضخم ومزيد من الإرتفاع في الأسعار وتدهور في مستويات المعيشة. ليس هذا وحسب، بل تنطوي هذه السياسة على إحتمالات شديدة الخطورة كالإستعداد المبكر للحروب العدوانية.

لا شك أن النظام الرأسمالي يشكل مرحلة من مراحل التطور في تاريخ البشرية وقد أثبت حتى الآن قدرة على التكيف مع الأزمات ولكنها ليست بالقدرة الكلية، فهذا النظام كان ويبقى حبيس أزماته الدورية ومواقفه من العدالة الإجتماعية وحبيس حالة الإستقطاب وتقسيم العمل الجائر على الصعيد الدولي وما رافق ويرافق ذلك من مظاهر إستعمار بأشكاله المتعددة ومن حروب مدمرة وعدوان على الشعوب المستضعفة وعرقلة لفرص التنمية فيها. الرأسمالية ليست نهاية التاريخ، بل فصل من فصوله، ودون التخلي عن خيارها الإستراتيجي أو المساومة عليه ينبغي على القوى اليسارية والإشتراكية والديمقراطية الجذرية أن تتحلى بدرجة عالية من الوضوح في موقفها من النظام الرأسمالي في طوره النيوليبرالي من أجل خلق الشروط الضرورية لكبح إندفاعاته المتوحشة، والدفاع عن الإشتراكية باعتبارها إمتداد لكل التراث الديمقراطي التحرري، الذي يتجاوز الرأسمالية المتوحشة بالنضال من أجل إعادة بناء علاقات القوى والإنتاج على الصعيد العالمي، بما يحقق العدالة والمساواة والتكافؤ على المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية وقيم الحداثة والحرية والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان فضلا عن حق الشعوب في رسم صورة مستقبلها وتقرير مصيرها.

 

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *