أمريكا والمحور المختل

إن أول زيارة يقوم بها الرئيس باراك أوباما منذ فوزه بولاية ثانية تسلط الضوء على محورية آسيا الجديدة بالنسبة إلى اقتصاد أمريكا وأمنها . ولكن جولة أوباما في آسيا أكدت أيضاً التساؤل الرئيس عن السياسة الأمريكية في المنطقة: هل يكتسب “محور” آسيا الأمريكي الجديد مضموناً استراتيجياً ملموساً، أو أنه سيظل إلى حد كبير مجرد إعادة ترتيب خطابية لسياسات قديمة؟


إن الولايات المتحدة، التي سارعت إلى الاستفادة من المخاوف الإقليمية التي أثارها تأكيد الصين لذاتها واستعراض عضلاتها على نحو متزايد، عملت على توثيق علاقاتها العسكرية بحلفائها الحاليين في آسيا وصياغة علاقات أمنية مع أصدقاء جدد . ولكن الوهج المسكر لعودة أمريكا إلى الصدارة في آسيا، كان سبباً في حجب التحديات الرئيسة التي تواجهها في محاولة البقاء، باعتبارها المرتكز الأمني الأساسي للمنطقة في مواجهة الطموحات الصينية الاستراتيجية .


ويتمثل أحد هذه التحديات في الحاجة إلى وقف تآكل قوة أمريكا النسبية، وهو ما يتطلب بدوره تجديداً شاملاً في الداخل، بما في ذلك ضبط الأوضاع المالية . ولكن الحاجة إلى خفض الإنفاق تثير أيضاً إلى احتمالات عجز الولايات المتحدة عن تمويل تحولها العسكري نحو منطقة آسيا والباسيفيكي، أو الأسوأ من ذلك، أن تضطر إلى تقليص إنفاقها هناك . لقد تنازلت الولايات المتحدة بشكل متزايد عن الأرض لمصلحة الصين في عهد أوباما، وهو الاتجاه الذي بدأ عندما أصبحت إدارة بوش مشغولة بالحرب في أفغانستان والعراق . ولقد أثار هذه الشكوك في قدرة أمريكا على توفير الثِقل الاستراتيجي “لمحورها”، من خلال الحفاظ على مستوى أعلى من الالتزام في منطقة آسيا والباسيفيكي، حيث تحتفظ بالفعل بنحو 320 ألف جندي من قوات مشاة البحرية . والواقع أن الاقتراح الجديد بنشر قوة إضافة تتألف من 2500 جندي من مشاة البحرية في أستراليا رمزي إلى حد كبير .


ولقد بدأت إدارة أوباما في ضغط الجوانب العسكرية لمحورها الجديد، بعد أن رفعت التوقعات الآسيوية باستجابة أكثر قوةً من جانب الولايات المتحدة في التعامل مع عدوانية الصين المتنامية، وأكدت بدلاً من هذا قدراً أعظم من المشاركة الاقتصادية الأمريكية هناك . وكان هذا التغيير باعثاً على الارتياح بين هؤلاء في المنطقة الذين كانوا يخشون الاضطرار إلى الاختيار بين الولايات المتحدة والصين . ولكن بالنسبة إلى البلدان التي تتحمل وطأة النهج المتعنت الذي تتبناه الصين في التعامل مع النزاعات الإقليمية والبحرية، فإن هذا التأكيد الجديد يثير شكوكاً جديدة بشأن مدى التزام أمريكا .


والواقع أن إعادة توجيه “محور” الولايات المتحدة اقتصادياً يعمل على تصحيح السياسة التي بالغت في التشديد على العنصر العسكري، ووضعت الولايات المتحدة على مسار يقودها إلى الصراع مع الصين . وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون هي التي أشارت إلى موقف أمريكي أكثر تشدداً في التعامل مع الصين بحديثها الصارم أمام المنتدى الإقليمي لرابطة دول جنوب شرقي آسيا في هانوي؛ وهي الآن حريصة على تلطيف هذا الموقف من خلال الحديث عن تشجيع التجارة والاستثمار أثناء زياراتها إلى دول آسيوية .


وكذلك كانت العودة إلى التركيز على القضايا التجارية والاقتصادية سبباً في دفع واشنطن إلى تعزيز الشراكة عبر ضفتي المحيط الهادئ، والتي تهدف إلى تشكيل مجموعة تجارية حرة جديدة في منطقة آسيا والباسيفيكي تستثني الصين . وتؤكد الولايات المتحدة فضلاً عن ذلك أهمية قمة شرقي آسيا، ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) التي تتداخل قمتها مع اجتماع قمة شرقي آسيا في بنوم بنه الذي يعتزم أوباما حضوره . وهناك اعتبار آخر أيضاً يملي على الولايات المتحدة تصحيح مسارها: فأميركا لن تجني أي شيء من الانحياز إلى أي جانب في النزاعات بين الصين وجيرانها، ما لم تتعرض مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر للخطر بطبيعة الحال، كما هي الحال في بحر الصين الجنوبي حيث تهدد المطالبات البحرية الصينية حرية الملاحة في أكثر ممرات الشحن البحرية كثافة مرورية على مستوى العالم .


ويفسر حرص الولايات المتحدة على حماية مصالحها الوطنية السبب الذي جعلها ترسم مساراً حيادياً ضمنياً في التعامل مع عودة النزاعات الإقليمية بين الصين والهند إلى الحياة، بما في ذلك عودة الصين بشكل مفاجئ إلى المطالبة بالولاية الهندية الكبيرة في منطقة الهيملايا، أروناتشال براديش . وعلى نحو مماثل، حثت الولايات المتحدة كلاً من الصين واليابان على التوصل إلى حل سلمي للنزاع على جزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان . ويتلخص الهدف الرئيس الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه في منع المواجهة من التصاعد إلى النقطة التي قد تضطر عندها ضد مصالحها الخاصة إلى الانحياز إلى اليابان .


عندما التقى وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا الزعيم الصيني تشي جين بينغ في الصين في سبتمبر/أيلول، أُبلِغ بكل وضوح أن الولايات المتحدة لابد أن تبقى بعيدة عن النزاع الصيني الياباني . وفي خضم الاحتجاجات الصينية المدبرة المناهضة لليابان في شهر سبتمبر/أيلول، أكَّد بانيتا علنا بدلاً من توجيه النصيحة إلى الصين بكبح جماح المظاهرات العنيفة على حياد أميركا في النزاع حول السيطرة على الجزر . والواقع أن تصحيح سياسات الولايات المتحدة يمتد فعلياً حتى إلى المصطلحات . فقد تخلى الدبلوماسيون الأمريكيون الآن تماماً عن مصطلح “المحور”، نظراً لدلالته العسكرية، لمصلحة تعبير “إعادة التوازن” .


وأياً كان المسمى المستخدم، فإن الاتجاه السياسي الجديد يدور بالكامل حول الصين، حيث تسعى أمريكا إلى تعزيز تحالفاتها وصداقاتها مع الدول المحيطة بالصين، بما في ذلك الهند واليابان والفلبين وفيتنام وإندونيسيا وكوريا الجنوبية . ورغم هذا فإن إدارة أوباما تستمر على إنكارها لكون الصين مركزاً لاستراتيجيتها . بل إنها غير راغبة حتى في قول أو فعل أي شيء علناً على نحو قد يثير غضب الصين .


إن منطقة آسيا والباسيفيكي سوف تحظى بقدر أكبر من الاهتمام في أجندة أوباما أثناء ولايته الثانية، وبخاصة مع إنهاء عملية سحب القوات الأمريكية من أفغانستان للحرب هناك بحلول عام 2014 . ولكن أوباما سوف يضطر إلى تحديد سياسة أمريكية أكثر وضوحاً، فيتعامل مع صعود الصين السريع في ظل نظام استبدادي يلاحق بقوة مطالبات حدودية ويعمل على تأجيج المشاعر القومية في الداخل . ويتعين على الولايات المتحدة وبقية دول آسيا ألا تكتفي بالتكيف مع الصين؛ بل يتعين عليها أن تسعى إلى تشكيل الصين على النحو الذي يجعلها تلعب وفقاً للقواعد .


* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز البحوث السياسية في نيودلهي، والمقال ينشر بترتيب مع “بروجيكت سنديكيت

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *