كيف وصل الرئيس مرسي … إلى «الطريق المسدود»؟!

يواجه حكم الرئيس المصري محمد مرسي اليوم تحديا مبكرا وعصيبا. فقبل أن يبلغ منتصف المئة يوم الثانية من حكمه، دُعيت الجماهير للاحتشاد ضده في تظاهرات مليونية، لن تقتصر على ميدان التحرير وحده، وتشمل عديدا من المحافظات الملتهبة بالفعل منذ يوم الجمعة الماضي، مطالبة إياه بأن يتراجع عن «الإعلان الدستوري» الذي أصدره الخميس الفائت، ومنح فيه لنفسه سلطات غير مسبوقة محصنة من أي طعن. أدى هذا إلى توحد مفاجئ للتيارات المعارضة له بصورة لم تكتمل بمثل هذا الشكل إلا في ثورة 25 يناير 2011 ضد الرئيس السابق حسني مبارك، وفي سبتمبر 1981 ضد الرئيس الراحل أنور السادات.

لكن السادات واجه هذا التحدي بعد 11 عاما من حكمه، كما كانت لحظة يناير بعد 30 عاما من حكم مبارك، في حين أن الرئيس الإخواني يصل إلى نقطة توحيد كل المعارضة ضده، بعد خمسة أشهر فقط من بدء عهده، وللمفارقة بعد ساعات هُنئ فيها بمديح دولي من جميع أرجاء الأرض بعد أن تحققت الهدنة بين «حماس» وإسرائيل، وتصدر اسمه جميع عناوين الصحف في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ولكن الدفة تحولت تدريجيا، بدءا من مساء الخميس الماضي، وانهمرت سلسلة من التقارير والتعليقات التي كان أقل ما فيها وصف الرئيس مرسي بأنه «الديكتاتور المنتخب»، ومنها نعته بأنه حصل على «سلطات كاسحة».

وفي حين بدأت دوائر غربية مختلفة في الإعراب عن قلقها بعد الإعلان الدستوري المفاجئ الذي سمي بقرارات 22 نوفمبر، قال وزير الخارجية الألماني غيدو فسترفيله: «إننا نعول على أن الرئيس مرسي الذي تمكن بشعور كبير من المسؤولية من التوصل إلى عقد هدنة بين حماس وإسرائيل، سيكون على نفس القدر من المسؤولية في علاج قضايا الداخل أيضا».

هذه العبارة الألمانية الرسمية القاسية، التي طلبت من الرئيس مرسي، ضمنا، أن يتوصل إلى هدنة داخلية كما توصل إلى هدنة خارجية، ربما تكون عكست بعض ردود الأفعال الداخلية على قرارات 22 نوفمبر والتي تسببت في استقالات متتالية من فريق الرئيس واكتمال انسحاب القوى المدنية من تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، بحيث لم تعد فيها سوى الأحزاب الدينية، وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة.

وتبدو الأسئلة ضرورية: ما الذي دفع الرئيس المصري إلى مثل تلك الخطوة التي فجرت غضبا كبيرا في كل القطاعات؟ وهل مضى إليها وهو يدرك حدود ردود الأفعال الداخلية، فضلا عن ردود الأفعال الخارجية، التي انتظرت عودة الإدارة الأميركية من إجازات عيد الشكر لكي تتبلور؟ وما هي دوافع تلك المقامرة التاريخية التي جعلت حكم أول رئيس مصري منتخب بعد ثورة يناير على مائدة «الرهان الصفري». إذا أصر على الإعلان الدستوري واجه تصعيدا سياسيا داخليا لا يعرف أحد نهايته، وإذا تراجع عنه خسر الحكم أي مصداقيه له؟
بعد وقت قصير من اندلاع أزمة غزة، التي سماها الكاتب الأميركي توماس فريدمان «حربا صغيرة»، ترك الرئيس مرسي الملف الإقليمي الملتهب، وصرح يوم الجمعة قبل الماضي محذرا بأنه قد يلجأ إلى «إجراءات استثنائية» إذا ما استمر بعض أعداء الاستقرار في ارتكاب ما يفعلون. استخف الإعلام بما قال الرئيس وأبدى توجسا في ذات الوقت، دون أن ينتبه الكثيرون إلى أن ما هدد به الرئيس سيظهر إلى العلن بعد خمسة أيام من تصريحه الأول.

في الأيام الأولى، وبعد أن أقسم اليمين الدستورية، خسر الرئيس أول معركة اختارها، حين قرر أن يعيد مجلس الشعب الذي سبق أن تم حله دستوريا، إذ أبطلت المحكمة الدستورية قراره، واحتشدت دوائر محكمة النقض ورفضت طلبا من مجلس الشعب لإبداء الرأي في مصيره، وقالت إن هذا ليس من اختصاصها وأنه لاتداخل مع «الدستورية». وتسبب ذلك في مواجهته تحديا اندفع إليه مع السلطة القضائية سرعان ما تضخم في ما بعد.
عمليا، واجه بناء شرعية مرسي اهتزازات إضافية كبيرة في الأسابيع الأخيرة، لاسيما في الأسبوع الأول من أكتوبر، حين مارست قوى المعارضة ضغوطا كبيرة حول وعود المئة يوم الأولى التي لم يتمكن الرئيس من أن يحقق منها الكثير، في مجالات النظافة والمرور والأمن وتوزيع الطاقة، ونجحت المعارضة في إظهاره غير قادر على الوفاء بتعهداته. وخلال فترة وجيزة ذهب الإعلام بعيدا جدا في انتقاده وصولا إلى مستوى تجاوز ما كان قد بلغه الإعلام مع مبارك في نهاية حكمه.

وبينما لجأ معارضون كثيرون إلى عمليات طعن متوالية أمام المحاكم، منحها الإعلام زخما متصاعدا، تعددت الأحكام التي أثبتت بما لايدع مجالا للشك أنه لايوجد صراع بين القضاء والرئيس بقدر ما هو تعبير عن ضعف الفريق القانوني للرئيس وجماعة الإخوان المسلمين التي تصر على أن تعيد مجلس الشعب، إلى أن أدركت أنه لن يعود. ليس هذا فقط، بل وستفقد مجلس الشورى بقرار حل دستوري مماثل يقترب، يوازيه احتمال حل الجمعية التأسيسية. وقبل كل ذلك إلغاء قرار الرئيس بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل الذي كان قد أصدره المجلس العسكري قبل إعلان فوز الرئيس بالانتخابات؟

 
لماذا تريد الجماعة أن تعيد مجلس الشعب؟
الإجابات كثيرة، فمن ناحية هي تواجه انتقادات شديدة سياسيا في الشارع لأسباب اجتماعية واقتصادية. ولم تعد كوادرها تملك صفات العضوية التي تمكنها من إدارة الموقف على الأرض وفقدت النفوذ الذي يجعلها قادرة على التواصل مع الجمهور بدون أن تتحمل المسؤولية التنفيذية المباشرة. أعضاء الجماعة يفضلون حتى هذه اللحظة أن يؤدوا دور المعارضين حتى لو كانت الحكومة تتبعهم.

ومن ناحية أخرى تعني عودة المجلس إضفاء شرعية واضحة على مجموعة من القوانين التي تحتاجها الجماعة في مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، بدلا من القرارات الإدارية التي تصدر عن الحكومة ولا يمكن تنفيذها لارتعاش الأيدي أو لطعون القانون عليها.

وبينما يحق للرئيس أن يصدر قوانين بموجب الإعلان الدستوري الذي أصدره لنفسه في أغسطس الماضي، حين أقال المشير طنطاوي والفريق عنان، فإنه كان قد تعهد بألا يصدر قوانين إلا في حال الضرورة القصوى، فضلا عن أنه يجوز الطعن دستوريا على أي قوانين دستورية إذا لم تكن هناك حاجة فورية من أجلها، كما يوجب ذلك القانون.

في غضون ذلك تصاعدت الأزمة السياسية الضاغطة، واندفع مستشارو الرئيس إلى اقتراح إبعاد النائب العام، بعد أن صدرت أحكام تبرئة المتهمين في قضية «موقعة الجمل». كنوع من تهدئة الرأي العام وإلقاء المسؤولية عليه، وهروبا من الأسئلة التي لم تزل تتضخم حول مسؤولية قيادات في الجماعة عن الموقعة ودورهم فيها. واصطدم الرئيس بمستوى محدود من الكفاءة في قدرة معاونية الذين لم يفلحوا في إدارة الموقف سياسيا وقانونيا في مسألة النائب العام. وأعلن المستشار عبدالمجيد محمود أنه باق في منصبه ولم يقبل أن يكون سفيرا لمصر في الفاتيكان.

أدت تفاعلات قضية النائب العام إلى تحويل المواجهة القانونية مع القضاء إلى «مواجهة شخصية سياسية» مع القضاة، إذ تصدى نادي القضاة للأمر وأعلن أن النائب لن يترك موقعه إلا في 2016 حين يحل سن تقاعده القانوني، وأنه لا أحد يملك إبعاده، وأبدى محمود نفسه نوعا من التحدي من خلال قرارات متوالية بدا أنه يثبت بها أن النائب العام يمكن أن يمثل حجر عثرة للحكم. وكانت أوضح نقطة حين بدأ في تلقي بلاغات حول نزاهة الانتخابات الرئاسية، وأجرى تحقيقات، ثم دفع بالقضية إلى وزير العدل أحمد مكي طالبا منه أن يعين قاضيا للتحقيق في البلاغات الخاصة بالانتخابات. وأصبح بذلك الأمر في ملعب فريق الرئيس. بيده القرار أمام الرأي العام، فإذا ما مضى التحقيق أثيرت تساؤلات حول مضمونه، وإذا لم يمض التحقيق أصبح فريق الرئيس يغطي على ما يخص انتخابات الرئاسة.

بالإضافة إلى ذلك، أنتجت مسألة النائب العام ضغوطا تالية، كان أهمها التصريح الذي أدلى به رئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند الذي قال في تحد واضح: «ليس فينا طنطاوي ولا عنان»، ما أدى إلى توتر في دوائر القوات المسلحة دفع الرئيس إلى أن يحضر تدريبات عديدة للجيش وأن يدلي بتصريحات يعبر فيها عن تقديره لكل من طنطاوي وعنان، وتلا ذلك توقف التحقيقات في بلاغات انهمرت بدورها ضد وزير الدفاع السابق ورئيس أركانه.

بالتوازي مع هذا، تضخم تحديان إضافيان: الأول هو التغطية الإعلامية الواسعة لكل ما يجري، وتواصل الانتقادات المبررة لأداء الرئيس وحكومته، مع عجز الآلة الإعلاميه الإخوانية عن أن تواجه كل هذا الهجوم.

في ذات الوقت تصاعدت أزمة الجمعية التأسيسية التي توالى انسحاب المنضمين إليها من القوى المدنية بسبب اعتراضات موضوعية على نصوص الدستور المقترح.

ثم فرضت الأجندة القانونية تحديها الأقرب، ففي يوم 28 نوفمبر، غدا، تحدد موعد الحكم في إلغاء الرئيس الإعلان الدستوري الأخير، كما تحدد يوم 2 ديسمبر موعدا لحكم «الدستورية العليا» في مصير مجلس الشورى ومصير الجمعية التأسيسية للدستور، ما أنذر بأن هناك أزمة شرعية كبرى سوف تواجه الحكم. لايمكنه أن يعيد مجلس الشعب. وليس لديه مجلس للشورى. ولا يمكنه أن يعيد تشكيل الجمعية التأسيسية بسبب التزامات سياسية وموجبات قانونية. ما يعني شللا كاملا للحكم، في الوقت الذي يواجه فيه الضغوط السياسية والإعلامية وانفلات النظام الإداري والتنفيذي الذي أدى إلى إهمال جسيم أسفر عن فاجعة منفلوط التي راح ضحيتها 51 طفلا في حادث القطار.

جماعة الإخوان في اجتماع مكتب إرشادها الأربعاء الماضي، قررت أن تقترح على الرئيس أن يذهب إلى نقطة أبعد، تجعل بيده الشرعية وتمكنه من تحصين التأسيسية ومجلس الشورى وتخوض رهانا سياسيا كبيرا على المضي قدما في هذا الاتجاه بحيث تحمي سلطتها وتوفر للرئيس، ما يجعله قادرا على مواجهة كل التحديات، وما يفرض مناخا يشيع رهبة بين القوى السياسية والإعلامية يؤدي إلى تمرير الوقت بحيث تتمكن من فرض سيطرتها على السلطة.

وفي ما يبدو فإن تفكيرها قد استند في ذلك إلى مجموعة من العوامل:
* الاستفادة من الدعم الدولي الكبير لحكم مرسي بعد انتهاء أزمة غزة، وتوظيف ما اعتقد أنه شرعية دولية في بناء قسري للشرعية الداخلية.

 
* وجود تصورات قانونية بأن ما أقدم عليه الرئيس من قرارات له ما يسانده من شرعية قانونية، والاستفادة مما ظنت أنه سيكون انقساما في آراء القانونين.

* الاعتماد على التحالف مع قوى التيار السلفي في تمرير هذه القرارات «شارعيا».
* الاستخفاف بقدرة القوى المعارضة على مواجهة هذه القرارات.

 والاعتقاد بأنها مفتتة ولايمكن أن تلتئم معا بما يمثل ضغطا. وأنها حتى لو التئمت لن تسبب تأثيرا قويا.

 
* الثقة في قدرة جماعة الإخوان على إقناع الرأي العام بالقرارات، وعدم اعتبار أن الجماعة تواجه انتقادات حقيقية في الشارع. كما أن أعضاءها بالفعل قد حملوا أعباء كبيرة خلال العامين الماضيين تؤثر على أدائهم.

* الاعتقاد بأن تضمين القرارات ما يخص عمليات إعادة المحاكمة سوف يؤدي إلى التفاف الرأي العام حول تلك القرارات.

لكن الذي حدث خالف التوقعات، ووصل بالإعلان الدستوري إلى التحدي الأكبر الذي يبدأ غدا بتظاهرة مليونية دعت إليها القوى المدنية، في حين تسود حالة من الاضطراب في مختلف المحافظات، نتيجه لما يلي:

 
1- استفادت القوى المعارضة من زخم رفضها للجمعية التأسيسية، في أن تحقق اعتراضا جماعيا، وأن تعلن في وقت وجيز ماعرف باسم «جبهة الإنقاذ الوطني».

 
2- انفضاض عدد من المثقفين الذين كانوا قد بدأوا العمل مع جماعة الإخوان نتيجة لضغوط متتالية من الجماعة، سواء لأسباب سياسية أو قانونية، ما أدى إلى استقالات متوالية من فريق مستشاري الرئيس، ثم إعلان المستشار طارق البشري الأقرب إلى جماعه الإخوان المسلمين أن الإعلان الذي أصدره الدكتور مرسي منعدم.

3- حالة الرهبة التي سادت في الأوساط الإعلامية أدت إلى شيوع مناخ بأنها تخوض المعركه الأخيرة دفاعا عن وجودها.

4- العيوب الجوهرية في الإعلان الدستوري سواء في ما يخص تحصين قرارات الرئيس كلها وبأثر رجعي، أو لأنها تمس جوهريا استقلال القضاء.

 
5- قدرة نادي القضاة على الحشد الفوري في اتجاه رفض الإعلان الدستوري والاستجابة المتتالية لدعوته لتعليق العمل في المحاكم وبصورة تجعله بمضي الوقت صاحب القول الفصل بين الجماعة القضائية وتهديده المجلس الأعلى للقضاء.

6- أدى الإعلان عن احتمال إعادة المحاكمات إلى نشوء رأي عام بين ضباط الشرطة الذين تمت تبرئتهم واستثارة تعاطف زملائهم من مصير مماثل، ما دفع النائب العام الجديد إلى القول إنه لن تعاد المحاكمات إلا إذا ظهرت أدلة جديدة، ففقد الإعلان الدستوري تعاطفا مفترضا من الذين يطلبون إعادة المحاكمات وفقد ثقة ضباط الشرطة.

7- ضغوط الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وعدم تحقق مصالح يمكن أن تكسب الرئيس أنصارا.
8- خطاب الرئيس بين مؤيديه الجمعة الماضي أمام قصر الاتحادية بلغة هاجم فيها قوى المعارضة ماكرس الانقسام ورسخ توحد المعارضين.

9- سرعة الاستجابة الجماهيرية للاعتراض على إعلان الرئيس ما تمثل في تظاهرات الجمعة الماضي والتي صاحبتها حالة تجرؤ كبيرة على مقرات جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة في محافظات مختلفة.

10- توالي التصريحات الدولية والتعليقات المختلفة من عواصم عديدة ضد الإجراءات التي اتخذها مرسي.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *