اللعبة السياسية بالعراق

 من يقلب ملفات العملية السياسية في العراق منذ عام 2003 ولحد اليوم يجدها تعج بالتناقضات والمفارقات، حتى كأنها بعيدة عن منطق السياسة في ماضيها التقليدي أو حاضرها المتجدد

. فهناك عناونين فرعية كثيرة استظلت بالعنوان الكبير(الديمقراطية) التي كانت إحدى المبررات الأمريكية المعلنة لاحتلال العراق حين استبدلت نظام الاستبداد والدكتاتورية الفردية بنخب تنتمي لأحزاب وقوى سياسية ذات مرجعيات طائفية وعرقية مع تهميش متعمد للتيار الليرالي الحرسواء أكانت أحزاب أو شخصيات سياسية عراقية معروفة، لكونهم لا يخدمون مشروعها الذي كانت تأمل تحقيقه في العراق ليشكل قاعدة مهمة في إطار استراتيجية تفتيت المنطقة عرقياً وطائفياً، معتمدة على ما رسمته في الحكم العراقي الجديد عبر بريمر وفق معادلة المحاصصة الطائفية المقيتة التي استبشر فيها جميع الداخلين الى بوابة الحكم الجديد عبر دعاوى تمثيل الشيعة أو السنة مقابل الأكراد لأنها وفرت لهم ضمانات خيالية، وقبل الجميع سواء عن قناعة أو غيرها بما فرضه الحاكم بريمر في جمع المتناقضات على مائدة الكعكة الأسطورية.

 وحولها الى مشروع ثابت للحكم بني الدستور العراقي وفقه، كل طرف يعلم بداخله إن يأخذ اليوم ما يحصل عليه ويعمل على الحصة الأكبر في الفرصة المقبلة عبر اللعبة الديمقراطية الهشة في استحواذه على السلطة.. الغموض في الدستور كان مقصوداً من قبل الجميع وحصلت الازدواجية ما بين النيات والتوافقات ليصبح الدستور محمية ومصدّاً، فالجميع يستحضرون قداسة الدستور لتمرير منافعهم الفئوية والذاتية. ويعروضونها للتسويق الاعلامي.. الجميع يعلم إن تلك الحالة لم تصل الى مستوى اللعبة السياسية رغم سطحيتها.. الكل مقتنعون إنهم في خندق واحد هو المحافظة على مغانم السلطة.

 رغم ما يشاع من خلافات ونزاعات شكلية. ظلّ المال هو المحرك لجميع المواقف والمدّوخ لجميع الأطراف من دون استثناء لقد كانت غالبية الكتل التي أفرزتها الانتخابات لدورتين متتاليتين تنتمي الى منابع ترتكز على نزعات طائفية شيعية وسنية تشكل الطيف العربي، وعرقية تمثل في معظمها الكتلة الكردية التي ظلت محافظة على توازنات مستقرة ومتفرجة على التناقضات الحادة وتطوراتها وما أفرزته الحكومات المتعاقبة في بغداد من بيروقراطية وفساد وتخلف إداري تقني.

 بل إن بعض القيادات الكردية كانت توحي على المستوى الاعلامي بوجود تحالف شيعي كردي في مواجهة العرب السنة رغم ركاكة هذا الشعار لكونه يتناقض أديولوجياً مع مفهومي الشيعة والسنة اللذين يرتكزان على قاعدة مرّكبة بين القومي والطائفي. لقد حاول الأكراد عرقلة نمو كتلة سياسية عربية متماسكة وقوية كي لا تلوي الطرف الكردي في أي من الملفات الساخنة.

 إن هذا النمو غير الطبيعي للعملية السياسية في العراق، أدى للأسف الشديد الى ضياع فرص المواجهة ما بين السلطة والمواطن على الانجاز، وانحرفت الاتجاهات الرئيسية الى تفصيلات فرعية لا تمت لقضية المواطن بصلة، والى انتعاش أدران الفساد المالي والاداري،وتحولها الى قوى لها تأثيرها في دوائر مركز القرار السياسي العراقي.

 ولم تحضر قوة سياسية لها دورها الواضح في تغيير الواقع وإزاحة الظواهر المريضة سياسية أو اقتصادية رغم ما تشكله قاعدة الموارد المالية من دعم هائل للمقرر السياسي، وبشكل أكثر وضوحاً لم تتبلور في العراق معالم قواعد واضحة للعبة السياسية تتقاسمها قوى لها وزنها عند الجمهور العراقي قادرة على استحضارمسرح صراع اللعبة

. وأغرقت البلاد في تفصيلات تعود الى ألف باء العملية السياسية. كانت الحيرة ما بين ضعف قدرات السياسيين العراقيين وإمكانياتهم في إدارة اللعبة الديمقراطية أو هيمنة الضغوط الاقليمية والدولية.

مع إن كثيراً من السياسيين ممن خرجوا من بطن الرحم الآديولوجي الديني المذهبي حاولوا ابتكار أساليب أكثر حداثة ومن بينهم نوري المالكي الذي حاول لمرات عدة الخروج عن قواعد حزبه الآديولوجي الى ميدان الاحتراف السياسي المدني، استناداً الى خبرات وتراكمات استفاد منها في قضية حكم العراق لنصف قرن مضى.

 وبايجاز لم تتبلور في العراق وبعد عشر سنوات من العملية السياسية سواء في ظل الاحتلال العسكري الأمريكي أو ما بعده.. معالم لعبة واضحة لشوط السلطة الديمقراطية.. هناك تشتت وغموض في الرؤى السياسية غطتها مساوئ الحكومة في البيروقراطية والفساد والتخلف الاداري التقني. لقد توفرت فرصة تاريخية أمام جميع السياسيين العراقيين لممارسة تقاليد اللعبة السياسية باحتراف حقيقي والتي كان بالامكان أن توّفر فرصة للبناء الديمقراطي الحقيقي في العراق. ولهذا كله لا يمكن الجزم بعد عشر سنوات من فراغ السلطة بالعراق معرفة من هو الرابح ومن هو الخاسر أمام الجمهور العراقي المحروم من أبسط متطلبات الحياة المدنية المعاصرة.

 الجميع يتبجح بالحرص على الوطن والمواطن، الغارق في السلطة يدافع والذي وضع نفسه خارج السلطة مع إنه بداخلها يراقب ويحسن فن الهجوم اللفظي.. فلا مشاريع للانجاز ولا مشاريع للمعارضة.. الجميع بلا مشاريع، السبب في ذلك كله يعود الى مرتكز جدي هو إن لا سياسة في العراق، والسياسيون هم في مرحلة التجريب للسلطة بالمعايير الديمقراطية الجديدة.. هم أتقنوا فن المعارضة.. بيانات.. عمليات خاصة.. تفجيرات.. اغتيالات.. الخ من توفرت أمامه فرصة الدخول في دواوين الحكومة وتعلم فنها وزواياها ومعالمها، أراد أن يدخل لعبتها، لكنه وجد نفسه أسيراً بين خياري الالتزام الحزبي الآديولوجي ومعايير السلطة الحديثة.. هذه العقدة عاشها صدام حسين منذ أوائل استلام سلطة حزب البعث عام 1968، وتجاوزها بعد عشر سنوات حين صفى جسدياً غالبية رفاقه في القيادة عام 1979، وتعامل بشكل مباشر وحر مع السلطة دون شريك.

 من يحاول ممارسة لعبة السلطة من زاوية الزعامة يراوده هذا الهاجس.. هاجس الخروج من العباءة الآديولوجية، مع فارق تاريخي كبير هو أن المساحة الديمقراطية التي توفرت بعد عام 2003 وضعت معوقات أمام قدرات الاستحكام امتلكتها المعارضات السياسية التي تتقن ولو بحدود بدائية لعبة الصراع على السلطة وفق المعاييرالديمقراطية.

 التفصيلات التي يتعامل وفقها جمهور واسع من المنتمين الى كتل برلمانية يتصدرون المشهد السياسي، هم جميعهم يجربون الدخول الى مسرح السياسة كتابعين، والاعلام اليومي يلعب دوره في تلقينهم الأدوار البدائية ليحسنوا أدوار المراحل اللاحقة ليصبحوا مشاريع سياسيين. مراحل السنوات الثلاث الأخيرة بلورت نوعاً من معالم اللعبة السياسية اقتحمها نوري المالكي بما امتلكه من امكانيات هائلة في سلطة الحكم رغم الضجة المحيطة به.

 في المقابل هناك رمز سياسي وجد من نفسه إنه قادر على إدارة اللعبة هو أياد علاوي رغم كل ما امتلكه من وسائل وأدوات سرعان ما تلاشت إمكانيات الفوز من بين يديه بشكل سريع لأسباب عديدة من بينها كثرة المبعثرين والمتسلقين النفعيين من حوله وعدم انتباهه لتلك السلبيات رغم النصائح الصادقة التي قدمت له، حيث تحولت هذه السلبيات الى مخاطر جديه هددت مشروعه السياسي الذي عرضه أمام العراقيين كعابر للطائفية وحصل على تأييدهم وولائهم عبر صناديق الاقتراع رغم ما أثير حول نتائجها من شكوك.

لكن عناصر اللعبة لم تتبلور ولم تنمو لخلوها من أهم عناصرها المتمثلة بالوضوح الكامل للتنافس السياسي مع ما يدعيه كل طرف من توفر تلك العناصر. وهناك سبب سياسي مهم هو إن الطرف الكردي بما إمتلكه من تراكم الخبرة منذ عام 1991 في صراعه مع نظام صدام تمكن من امتلاك المرونة في اللعب على كل من كتلتي علاوي والمالكي. لقد جعل الأكراد من أنفسهم الطرف الأقوى في اللعبة حتى وإن كانت في مراحل بنائها الأولى،وتحولوا الى وسطاء.

 ومكاسب الوسطاء معروفة، وبذلك تراجعت قدرات أياد علاوي ليصبح عنصر معاوناً للطرف الأقوى الكردي فيما استوعب المالكي الصورة واستحضر استعداداته للخصم السياسي الأول الكردي وليس العربي المتمثل بعلاوي كجزء من عملية التهميش المدبرة التي أتقن حافاتها المالكي نفسه للحفاظ على سلطته في بغداد التي لا ينافسه فيها الأكراد ولهذا ورغم جميع مظاهر خسارة المالكي في الاداء الحكومي بسبب الفساد المالي والاداري الذي يطيح بأية حكومة على الأرض، إلا أنه صمد أمام علاوي بعد أن فتح على جبهته ثغرات عديدة،أهمها اختراقه لجدار جسم الكتلة العراقية، رغم إن كفة الميزان دائماً ما تكون للمعارض في تسجيل نقاط الضعف على خصمه.

 لحد اللحظة لا توجد خسارة طرف على آخر، لأن معادلة الصراع غير متقنة، والساحة المنظورة هي ما بين الزعامات الكردية و المالكي مع إنه قادر بلحظات على تفتيت مظاهر الاحتقان إن أراد ذلك.. التحالفات معروفة وهي غير ثابتة وهناك جنوح للاستفراد على قاعدة الأغلبية السياسية حيث يجد المالكي بأنه قادر على إدارتها.. المظاهر الأخيرة للتصعيد السياسي والاعلامي والعسكري الحكومي الكردي لن تقود الى أزمة حادة ولا يتوقع لها أن تطيح بالعملية السياسية، بل سيتمكن الأكراد من تحقيق مطالبهم ولو ليس دفعة واحدة، ولكنهم سيحصلون على ضمانات جديدة.. هم الرابحون لأنهم مستقرون وواضحون لا تطارد كيانهم “الاقليم ” أشباح الفساد وانعدام الأمن مثلما هي عليه بغداد، كما انهم يعبرون عن طموحاتهم في تحقيق حق تقرير المصير لشعبهم

.أما الجانب العربي داخل العملية السياسية فيسوده الغموض والتشتت والشكوك والمؤامرات.. كانت هناك فرصة للتحالف السياسي بين علاوي والمالكي على مسرح شراكة السلطة غداة الانتخابات، وكان الأكراد من ساعد المالكي في الحصول على ربح السلطة إضافة الى الأمكانات الاقليمية والدولية الهائلة (طهران وواشنطن ) اللتان وفرتا له عناصر الفوز. مقابل تخلي واشنطن عن علاوي، وعدم نفع شبكة العلاقات العربية التي أمتلكها علاوي، ولم يتمكن للأسف من استثمار الولاء الشعبي الذي تحقق له في مرحلة دقيقة من حياة العراق لأسباب بنيوية وتنظيمية هو يعرفها أهمها عدم انسجام أطراف كتلته التي ربطتهم المصالح الذاتية وليس الولاء الذي توفر بقوة عند قيادات حزب الدعوة الذي استحضر موروثه التنظيمي والآديولوجي في الساحة السياسية العراقية وسط استثمار هائل للولاء المذهبي الطائفي وتم توظيفه لصالح رمزه القيادي المالكي .

 الآن لا توجد أوراق لعبة سياسية يمكن قراءة سطورها وتفكيك رموزها.. ومن المتوقع أن تظل العملية السياسية تتدحرج لحين الانتخابات المقبلة، حيث يشتغل المالكي عليها بحسابات ذكية، ويحاول اقتحام جدار المشروع الوطني الذي أداره علاوي منذ سنوات وتعثر في حصاد نصره، ولا توجد مؤشرات على إستعادة عافيته لأن الامكانيات المادية واللوجستية والمعنوية التي تحققت عام 2010 من الصعب توفيرها اليوم وسط إحباط شعبي رغم كل عناصر الغلبة السياسية المتوفرة والتعاطف الاعلامي العام، إلا إذا حصلت تغييرات دراماتيكية تتعلق بالبنية التنظيمية لجبهة علاوي.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *