الحرب الأهلية بالواسطة في طرابلس اللبنانية… أين يمكن أن تصل؟

ما يحدث في طرابلس من مواجهات عسكرية دامية بين مقاتلي “الحزب العربي الديمقراطي” العلويّين من جهة، ومقاتلي التيّارات السنّية المتشدّدة على إختلافها، هو نموذج لحرب أهليّة مصغّرة، يتواجه فيها فريقا نزاع، ليس على خلفيّات عقائدية كبرى، أو على مفاهيم سياسيّة متناقضة، بل على خلفيّة مذهبيّة محض، فبحسب تصنيف المتقاتلين على الأرض: هذا سنّي مناهض للنظام السوري ولكل مؤيّديه، وهذا علوي مع النظام ومع كل من يحميه، قبل أن يكون الإثنان لبنانيّين!

وهذه المواجهات العبثيّة التي تتبرّأ الأطراف السياسية كافة، من المتورّطين الميدانيّين فيها، تجد من يموّلها في السرّ بالتأكيد، وإن كان بعض هؤلاء يدينونها في العلن! وهذه المواجهات ليست محصورة في طرابلس، لأنّ سكان باقي المدن والمناطق اللبنانية هم أكثر وعياً، أو لأنّهم أكثر إهتماماً بأمن وإستقرار الوطن، أو لأنّهم أكثر حرصاً على الوحدة الوطنية، بل لأنّ كلاً من الوقائع الديمغرافيّة والظروف الميدانية الموجودة في طرابلس ساعدت على الإنزلاق إلى الفتنة المسلّحة بسرعة، في حين أنّ مثل هذه الظروف لم تنضج بعد في باقي المناطق!

ففي طرابلس، توجد منطقتان متلاصقتان، هما جبل محسن وباب التبّانة، مع تقسيم ديمغرافي مذهبي واضح، ومع كثافة سكّانية عالية، ومع مستوى معيشي متدنّ. وكل هذه العوامل تسهّل إنخراط الشباب الصغار في السنّ في “لعبة شباب الشارع” القاتلة!


وفي طرابلس، يوجد حقد متبادل، بين كثير من العائلات تعود جذوره إلى العام 1979، أي إلى أيّام المشاكل بين الجيش السوري ومسلّحي حركة فتح الفلسطينية، والذي بلغ الذروة في أيلول من سنة 1985، بقيام الجيش السوري بتسهيل ودعم هجوم كلّ من قوّات “فتح الإنتفاضة” و”الجبهة الشعبيّة – القيادة العامة” والحزب الشيوعي والحزب “القومي السوري الإجتماعي” على طرابلس، لإقصاء مقاتلي حركة “فتح” و”حركة التوحيد الإسلامية”. وإنتهت العمليّة بدخول الجيش السوري إلى المدينة، بتأييد من كثير من أبناء جبل محسن الذين كانوا بدأوا يخشون من تنامي أصولية مذهبية في طرابلس، تمثّلت في حينه في ما يُشبه الإمارة التي فرضتها “حركة التوحيد”. وهذا الجرح، المتمثّل باضطهاد وإعتقال الكثير من أبناء المدينة، لم تتمّ معالجته جدياً بعد إنتهاء الحرب اللبنانية، الأمر الذي أبقاه مفتوحاً حتى تاريخه، على الرغم من تبدّل موقف قيادة “التوحيد” من النظام السوري في مرحلة لاحقة نتيجة الإغراءات التي مُنِحت لها.

وفي طرابلس، يوجد تحريض كبير، وتخويف مبالغ فيه، وإتهامات وتهويل متبادل. وكل طرف يخشى الآخر، ويتّهمه بالتسلّح تحضيراً للإنقضاض عليه عندما تسمح الظروف المحلّية والإقليمية بذلك! وعمليّات “غسل الدماغ” المتبادلة تستفيد من الظروف السياسية والأمنية الضاغطة، محلّياً وإقليمياً، الأمر الذي يجعل الأرضية ملائمة للتعبئة المذهبيّة والمناطقيّة.

وفي طرابلس، يستطيع المقاتلون من الطرفين، الإنسحاب من الشارع والإختباء ضمن بيئة شعبيّة حاضنة، بعيداً عن قدرة القوى الأمنية الرسميّة على الملاحقة والتوقيف، ومن دون أي قدرة تُذكر للسكّان الحيادييّن ولمعارضي القتال المذهبي، لجهة منع المواجهات. وهذا يشجّع المنخرطين بلغّة السلاح على النزول إلى الشارع، عند سماع أي إشاعة، أو عند حصول أيّ سبب مثير للتوتّر، أكان صغيراً وثانوياً أم كبيراً ومهمّاً.
وهذه المعطيات التي تشكّل أرضيّة خصبة للمواجهات العسكريّة التي تتجدّد دورياً في طرابلس، متوفّرة كنواة وكبذور في كثير من المناطق اللبنانية الأخرى. وبالتالي، إنّ خطر أنّ يصبح لدينا أكثر من “جبهة ساخنة” وارد بقوّة، بمجرّد توفّر بعض الظروف المؤاتية. والخلاف العمودي في لبنان، صار له إمتدادات إقليميّة أكثر من أي وقت مضى، وجثث اللبنانيّين العائدة من سوريا، أكانت تحت عباءة “تأدية الواجب الجهادي” أو تحت ستار “نصرة المظلوم على الظالم”، ما هي إلا جرس إنذار لما يمكن أن تصل إليه الأمور في المستقبل غير البعيد. فالحرب الأهليّة بالواسطة في سوريا، يمكن أن تصبح حرباً أهليّة مباشرة، في حال بقيت سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية، مجرّد شعارات إعلانية فارغة مناقضة لما يحدث على الأرض، وفي حال بقيت سياسة الأمن بالتراضي هي الوحيدة المتاحة للقوى الأمنيّة اللبنانية، في ظلّ تنامي عمليّات التسليح والتدريب والتجهيز بين أكثر من طرف في لبنان!

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *