تحولات سكانية في الولايات المتحدة قد تعدّل موازين القوى السياسية

يرى كاتب أمريكي أن انتخاب أمريكي إفريقي، هو باراك أوباما، رئيساً لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، ثم فوزه بولاية ثانية، يمكن أن يكون بداية تغيير محتمل في موازين القوى السياسية في أمريكا، ويقول مورغان سترونغ وهو بروفيسور سابق في تاريخ كل من أمريكا والشرق الأوسط إن أوليغارشية بيضاء ثرية هي التي كانت تحكم الولايات المتحدة منذ نشأتها كأمة مستقلة، ولكن هذا الواقع يمكن أن يتغير الآن نتيجة لتغير التركيبة السكانية لأمريكا وتزايد تأثير الأمريكيين غير البيض . وقد عرض سترونغ تحليله في مقال نشره في موقع “كونسورتيوم نيوز” قال فيه:

قبيل فجر يوم 19 إبريل/نيسان 1775 وبينما كان جنود نظاميون بريطانيون يتصدون لرجال ميليشيا أمريكيين في ليكسنغتون غرين في ماساشوستس دوت طلقة نارية، ما أدى إلى مناوشة قصيرة قتلت ثمانية أمريكيين وأشعلت شرارةالحرب الثورية (1) . وقد دخلت تلك الواقعة التاريخ تحت اسم “الطلقة التي سمعت حول العالم” .

ولكن إعادة انتخاب باراك أوباما وهو أول رئيس أمريكي- إفريقي لهذه الدولة، يمكن أن يمثل بداية ثورة أمريكية أخرى، ثورة تواجه فيها الاوليغارشية (حكم الأقلية) البيضاء والناخبون المناصرون لها، وهم أساساً بيض- تغييراً ديموغرافياً (سكانياً) أخذ يعدل موازين القوى في الولايات المتحدة .

والذين يقفون خلف انتصار أوباما وهزيمة ميت رومني، المستثمر الأبيض الثري منذ ولادته، هم الناخبون غير البيض من أصول إفريقية وإسبانية وأمريكية لاتينية وآسيوية ومعهم نساء غير متزوجات، ومثليون وشبان بيض آمنوا بمستقبل متعدد الثقافات لبلدهم .

ومع أن بعض المشككين ينازعون في أهمية هذا التحول الانتخابي، ويجادلون بأن أوباما هو مجرد خادم متزلف آخر للنخبة الثرية في أمريكا ولن يحقق شيئاً يذكر بسبب احتراسه الشديد، إلا أن نتيجة الانتخابات توفر فرصة نادرة لتحول كبير في موازين القوى الفاعلة في أمريكا . وهذا الثنائي العرق، ونجل أم عاشت بمفردها وكانت تحتاج إلى قسائم غذاء من أجل الحصول على الطعام، لم يكن إطلاقاً الشخص الذي تصورته الأوليغارشية البيضاء رئيساً في العام 2013 .

وربما أرجعت الاوليغارشية والمدافعون عنها الولاية الأولى لأوباما إلى حادث عرضي أو شذوذ في التاريخ نتيجة لموهبة شخصية فريدة، وكذلك لواقع أن وول ستريت (حي المال والأعمال في نيويورك) قد أغرق البلد في أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم (في ثلاثينات القرن الماضي) . غير أنه من الصعب تفسير فوزه بولاية ثانية، خصوصاً أن معدل البطالة كان لا يزال مرتفعاً والناس يشعرون بالإحباط إزاء المأزق السياسي في واشنطن الناجم عن الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين .

يضاف إلى ذلك أن رومني كان الخيار المفضل للبيض الأثرياء، وللعديد من البيض الأقل ثراء، خصوصاً في جنوب الولايات المتحدة . وحتى لحظة إعلان النتائج الصاعقة ليلة الانتخابات (ليلة السادس إلى السابع من نوفمبر/تشرين الثاني) كان رومني وأنصاره الموسرون يتصورون سنوات مقبلة من السيطرة الجمهورية، وهو ما كان من شأنه أن يجعل الحياة أسهل بكثير بالنسبة لأرباب الشركات وطبقة المستثمرين، ويؤدي إلى شطب البرامج الاقتصادية- الاجتماعية المكرسة لإعانة الفقراء والمتقاعدين، ودعم الطبقة الوسطى .

وفي جميع الأحوال، هكذا كانت الأمور تجري تقليدياً في أمريكا، مع استثناءات قليلة، مثل فترة الخطة الاقتصادية الجديدة التي وضعها الرئيس فرانكلين روزفيلت وعرفت باسم التعامل الجديد New Deal لمعالجة أزمة الكساد العظيم التي تسبب بها وول ستريت، وقد كانت هذه الأوليغارشية هي التي تحكم أمريكا طوال الجزء الأكبر من تاريخها، فلماذا تتغير الأمور الآن؟

منذ بداية الأمة الأمريكية المستقلة كان رجال (وبضع نساء) أثرياء في مواقع النفوذ يسيطرون على العملية السياسية، وقد حكموا من خلال وكلاء لهم تولوا مناصب عن طريق الانتخاب، وهكذا يصور المؤرخون الذين يوصفون ب”التعديليين” (أو التحريفيين) تاريخ الولايات المتحدة، ويتبنون نظرة أقل رومانسية لماضينا وحاضرنا، ويقدمون رواية متجردة، أقل بطولية، للتجربة الأمريكية من خلال تحليل الأسباب والنتائج والقرارات والأدلة .

الآباء المؤسسون

في كتابه “من يحكم أمريكا” يصور جورج وليام دامهوف(2) العملية السياسية في الولايات المتحدة على أنها عملية تمسك بها حصرياً نسبة مئوية ضئيلة من السكان، وتمكنت بفضل ثرواتها ومواقع نفوذها من السيطرة على الوضع السياسي والاقتصادي للمواطنين، وهذه هي الأوليغارشية التقليدية .

نشر دامهوف أطروحته “التعديلية” أول مرة في العام ،1967 ثم أصدر طبعات جديدة في أعوام (1983 و1998 و2002 و2006) وقد عرض العلاقات المتبادلة بين رؤساء الولايات المتحدة وعائلاتهم وصداقاتهم، ليبرهن على الروابط الوثيقة التي نسجها العديد من قادة البلد منذ نشأته، وهؤلاء القادة خدموا مصالحهم الخاصة، كما مصالح الأوليغارشية وحافظوا على الوضع القائم على أفضل نحو، سياسياً واقتصادياً، لكونه يعمل لمصلحتهم ومصلحة الأوليغارشية .

وإذا نظرنا إلى تاريخ الولايات المتحدة من هذا المنظور نرى أن ثورة الاستقلال الأمريكية كانت قد بدأت على شكل رفض النخبة في المجتمع الأمريكي الحديث النشأة لعبء الضرائب، وقد كان جورج واشنطن “أب الأمة” وأول رئيس وربما أعظم بطل أمريكي، مؤسسة أكثر منه فرداً، فقد كان أكبر مالك أراض في هذا البلد، وامتلك أكبر مصنع لتقطير الويسكي .

وجميع “الآباء المؤسسين” الآخرين تقريباً كانوا يملكون مصالح مماثلة . فقد كان جون هانكوك (تاجراً ورجل دولة وأحد الوطنيين القياديين في الثورة الأمريكية) يملك أسطولاً من السفن، في حين أن بنجامين فرانكلين (أحد الآباء المؤسسين وكاتب وعالم ومخترع، ورجل دولة) كان رجل أعمال يصدر صحفاً وينشر كتباً . كما أن توماس جيفرسون (أحد الآباء المؤسسين والكاتب الرئيس لإعلان الاستقلال وثالث رئيس) كان يملك مزرعة ضخمة . وجميعهم وجدوا ضريبة التاج البريطاني مفرطة .

وهؤلاء المسؤولون الرئيسيون في الثورة نجحوا في تحريض عامة الشعب الأمريكي على القطيعة مع ملك بريطانيا، والملك نفسه كان يمارس سلطة مطلقة، وقد جمع أموالاً طائلة عن طريق الفتوحات والاستعمار، والضرائب، وقراره فرض ضرائب على جميع المستعمرات كان من أجل تمويل حروبه وتوسيع ممتلكاته .

والفتوحات البريطانية لم يكن لها أية غاية نبيلة، بل كانت فقط مسألة توسيع سلطة وجمع ثروات، وحسب المؤرخين “التعديليين” فإن الرأي السائد بين قادة الثورة الأمريكية رأى أن من الأفضل إبقاء الثروة داخل البلد، ومع تحقيق الانتصار على بريطانيا، استولت النخبة الثورية الأمريكية على السلطة، واحتفظت بها من خلال أوليغارشية ثرية قائمة بذاتها .

ويعرض داومهوف أيضاً الروابط الشخصية والعائلية التي تطورت بين العديد من الرؤساء في الماضي، وكان هناك عدد من الزيجات التي عقدت بين عائلات الأوليغارشية من أجل ضمان سيطرتها على السياسة والاقتصاد في أمريكا . وأحد الأمثلة على ذلك هو عائلة آل روزفيلت وهي عائلة مستوطنين جاءت من هولندا وأصبحت عائلة سياسية بارزة امتلكت مصالح كبرى وكان من بين أفرادها البارزين الرئيسان تيودور روزفيلت وفرانكلين روزفيلت والسيدة الأولى اليانور روزفيلت .

وقد تكتل الأثرياء فأصبحوا طبقة اجتماعية طورت مؤسسات أتاحت لأبناء أفرادها عقد روابط وثيقة جعلتهم طبقة عليا ارستقراطية ثابتة، ولايزال أعضاء في هذه الطبقة يسيطرون على العديد من الشركات الكبرى وهي الشركات التي تشكل الآلية الأساسية لصنع الثروة وامتلاكها في هذا البلد .

إرهاصات تغيير

في هذا الواقع، كانت السلطة التي يتمتع بها المواطن الأمريكي العادي من خلال العملية الانتخابية أقل مما يعتقد عموماً (أو ما يزعم في حصص التربية المدنية في صفوف الدراسة الأمريكية)، ومقاومة النخبة حدت بصرامة من قدرة جمهور الناخبين على فرض تغيير تستفيد منه الجماهير، وعلى بناء مجتمع أكثر عدالة . والاقتراع في الانتخابات لا يجعل الحكومة تستجيب بالضرورة لإرادة الأغلبية عندما تكون السيطرة الفعلية على الحكم بأيدي نخبة لا تسمح بإلغاء سيادتها أو انقاص ثروتها .

وقد كانت هذه هي الحال دائماً، ولكن ربما حتى الآن فقط، ففي العقود الأخيرة تغير المجتمع الأمريكي بحيث أصبح غير البيض يشكلون نسبة مئوية متزايدة باطراد من جمهور الناخبين والعديد من أفراد هذه الفئة الاجتماعية لا يريدون استمرار البنية القديمة التي تحابي الأوليغارشية البيضاء الثرية، وقدرة الفقراء والمحرومين على التأثير آخذة في التزايد، في حين أن الأكثرية البيضاء الراضية عن نفسها لم تعد العامل الحاسم في الانتخابات الأمريكية .

وقد قيل الكثير عن براعة الحملة الانتخابية للرئيس أوباما، ولكن كانت هناك أيضاً عوامل مهمة أخرى: تغير تركيبة جمهور الناخبين، وتنامي الرغبة في تغيير حقيقي، ورفض لما يعتبره عديدون نخبة معوقة للتغيير تتمتع بثراء فاحش وتجعل حياة الأكثرية أكثر صعوبة، بل حتى لا تطاق .

وما من مرشح رئاسي على المسرح السياسي الأمريكي المعاصر مثل النخبة تماماً أكثر مما فعل ميت رومني . خلال اجتماع مغلق مع أنصار أثرياء في مايو/أيار الماضي، (سجل أحدهم وقائعه سراً ثم بثها عبر الإنترنت)، ذم رومني ال 47% من الأمريكيين الذين قال إنهم لا يدفعون ضرائب دخل، وهم بالتالي عالة، علماً بأن ضرائب معظمها تحسم تلقائياً من رواتبهم، في حين أن آخرين من هؤلاء ال 47% هم متقاعدون، أو جنود في مناطق قتال، ولكن رومني قال بوضوح إنه وطبقته يعتبرون هؤلاء الأمريكيين، وآخرين يحصلون على إعانات حكومية عالة على المجتمع . وتعليقه حول ال 47% طائش، لكنه يكشف عن تفكير عضو في الأوليغارشية، ولو أن هذا التعليق عبر بشكل صحيح عن شعور بالإحباط إزاء تغير التركيبة السكانية، بما يتعارض مع مصالح النخبة .

وهكذا، فإن هزيمة رومني تخلق فرصة أمام البلد لكي يغير اتجاهه بطريقة ثورية تستجيب للتطلعات المحبطة للطبقة الوسطى، والفقراء والشبان وجميعهم يتصارعون مع واقع متأزم، ولكن تبقى هناك قوى عديدة تقاوم أي نموذج سياسي أو اقتصادي جديد، كما أن هناك شكوكاً في إمكانية أن يكون أوباما- التوفيقي في كثير من الأحيان- محركاً لتغيير جوهري .

وبالنسبة لرومني بعد هزيمته فإن العديد من أنصاره تخلوا عنه كما لو أنه سفينة تغرق، ونأوا بأنفسهم عن عدم كفاءته كمرشح . ومن جهته انتقم رومني لردود الفعل على تعليقه بشأن ال 47% بقوله خلال اجتماع مع أنصار تبرعوا بأموال لحملته الانتخابية إنه خسر معركة الرئاسة لأن أوباما قدم “هدايا” إلى المجموعات السكانية المفضلة لديه ثم أقنع أفرادها بالتوجه إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم .

وملاحظة رومني هذه تشكل إهانة لأولئك الناخبين، إلا أنها تعكس شيئاً حقيقياً، وهو واقع أن النموذج السياسي الاقتصادي الأمريكي أخذ يتحول ويبتعد عن الوضع القائم السابق الذي جعل البيض الموسرين، على مدى أجيال، مطمئنين إلى حصولهم على الجزء الأعظم من ثروات الأمة .

هوامش

 (1) الحرب الثورية، أو حرب الاستقلال الأمريكية، بدأت كحرب بين مملكة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تطورت تدريجياً إلى حرب عالمية بين بريطانيا من جهة، والولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وإسبانيا من الجهة الأخرى . وكانت نتيجتها الرئيسة انتصاراً أمريكياً . والحرب كانت نتيجة الثورة السياسية الأمريكية التي فجرها قانون للبرلمان البريطاني فرض ضريبة مباشرة على المستعمرات من أجل تمويل الدفاع العسكري عن هذه المستعمرات في المقابل رفض المستوطنون الأمريكيون بصفتهم رعايا بريطانيين دفع هذه الضريبة التي اعتبروها غير مشروعة لأنهم لم يكونوا ممثلين في البرلمان البريطاني .

(2) جورج وليام دامهوف (ولد عام 1936) هو بروفيسور في علم الاجتماع وعلم النفس في جامعة كاليفورنيا (سانتا كروز) وكتابه “من يحكم أمريكا؟” صدر في الستينات وكان من الكتب الأكثر رواجاً، وأثار جدلاً لاستنتاجه أن طبقة نخبة هي التي تحكم الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً .

 

 

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *