الكرملين وسباق البيت الأبيض: هوية الرئيس لن تغيّر الكثير

ضبط الكرملين النفس طويلا وبذل مجهوداً للصمت حيال الانتخابات الأميركية، حيث تجنب الإعلان رسمياً عن أي موقف في صالح أحد المرشحين للرئاسة الأميركية ضد الآخر.

حاولت موسكو منذ انطلاق الحملة الانتخابية الأميركية التملص من الكشف عن مفضلها بين مرشحي الحزبين الديموقراطي والجمهوري، محافظة طوال هذه الفترة على هدوء دبلوماسي إزاء السباق إلى البيت الأبيض، يذكر بهدوء الدب الأبيض الحذر قبل انقضاضه على فريسته.
وواقع الأمر أن روسيا تعرف جيداً ما تفعل، ذلك أن هوية الرئيس الأميركي لن تغير الكثير في العلاقات مع الكرملين، فالنظام الأميركي وسياسته الخارجية تعتمد أكثر على خط واحد أثبت التاريخ أن «الشخص» لا يغير في أولوياته ومحطاته الكثير

.
وبالنظر إلى تاريخ العلاقات الأميركية ـ الروسية يمكن ملاحظة استقرارها على خطوط حمراء معينة لم يكن لحزب ديموقراطي أو جمهوري خلالها تأثير خاص على القضايا العالقة منذ زمن طويل بين القوتين.
قد يعتبر البعض أن فوز مرشح الديموقراطيين باراك أوباما خطوة ايجابية في هذه العلاقات لكن الأمر ليس بديهياً، لأن البعض الآخر يرى في تطور الأوضاع الراهنة في نقاط عدة من العالم سياسة إلزام جامدة لا تقبل إضافات وتعليقات شخصية قد يمليها رئيس سيغيب بعد سنوات.

في هذا الصدد، أوضح المحلل السياسي فيودور لوكيانوف، وهو رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية»، في حديث إلى «السفير» أن «العلاقات الروسية ـ الأميركية لن تتغير بعد الانتخابات الرئاسية، بغض النظر عن هوية الفائز فيها أو انتمائه السياسي».
وقال لوكيانوف إن «أوباما سيسعى أول الأمر عند فوزه إلى الاستمرار في الأجندة ذاتها التي بدت ناجحة إلى حد ما خلال ولايته الأولى، ومنها مواصلة النقاش حول الملف الإيراني والدرع الصاروخية وغيرها من المواضيع التي عرفت إما استقراراً معيناً أو تطوراً خفيفاً».

وأشار رئيس التحرير إلى أن «أوباما، لاعتباره لا يملك ملفات جديدة لتطوير العلاقات مع روسيا، سيعمل على توسيع الآفاق القديمة ما سيحول العلاقات الحالية مع الوقت إلى علاقات توتر، خاصة إذا ما استنفدت كل الاقتراحات والحلول من الجانبين».

يرفض لوكيانوف نظرية أن فوز مرشح الجمهوريين سيكون أسوأ للعلاقات الثنائية لأنه سيرفض تماماً الحديث مع روسيا خلال الفترة الأولى من حكمه، فـ«لطالما كان التعامل مع الجمهوريين أسهل لروسيا لأنهم واضحون حتى في سلبياتهم، ما يسهل الرد وتوقع خطواتهم المقبلة، أما الديموقراطيون فهم أصعب من حيث تلفيقهم ودورانهم حول الهدف الأساسي».
وفي النهاية، يبقى أوباما، حسب لوكيانوف، وقوداً أبعد مدى لدفع العلاقات بين القوتين إلى مستوى أقل خطراً وبعيداً عن الانفجار.

ويشاركه الرأي رئيس «معهد الدراسات الإستراتيجية» ألكسندر كونوفالوف الذي يرى أن «أوباما كممثل للديموقراطيين يتمتع بليونة أكبر وبلياقة ديبلوماسية في النقاش والحوار في وقت لا يرحب الكرملين بالانتقادات العشوائية ويرفض الخضوع لإملاءات سياسية خارجية».

وبالعودة إلى الوراء في تاريخ الصداقة بين البلدين، لا شك في أن العلاقات بينهما فور انهيار الاتحاد السوفياتي وتسلم بوريس يلتسين سدة الرئاسية في البلاد كانت أقل حدة وأكثر اعتدالا، إلا أن يلتسين «تمكن جاهدا» من نشر السم في عروقها بإطلاقه حربي الشيشان ومنحه كامل السلطة والنفوذ للأقلية الأوليغاركية.
ولّى عهد يلتسين واستلم فلاديمير بوتين مفتاح الكرملين. خلال ولايتي بوتين كان البيت الأبيض بيد الجمهوريين، وعلى رأسه جورج بوش الابن.

يمكن القول إلى حد ما إن لبوش فضلاً كبيراً في تنامي شعبية بوتين على حلبة السياسة الدولية، فعلى خلفية سياسة الدم والسفح وغياب الإستراتيجية التي اتبعها الرئيس الأميركي وقتها، بدا بوتين متفوقاً في إدارة هذه العلاقات وأكثر توازناً.

لا شك في أن إدارة أوباما الديموقراطية حققت إنجازات ملحوظة في إطار العلاقات الروسية ـ الأميركية ومنها كان تعهدها بالتوصل إلى تفاهم مع الكونغرس بشأن إلغاء تعديل «جاكسون ـ فينيك» الذي فرض على الاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي بسبب عدم سماحه بحرية الهجرة، ولا يزال هذا القانون قائماً حتى اليوم على الرغم من توالي الديموقراطيين والجمهوريين في البيت الأبيض طوال هذه الفترة.

الإنجاز الآخر هو العهد الذي قطعه أوباما سراً لميدفيديف، وفضحته الميكروفونات في سيؤول خلال فعاليات القمة الدولية الثانية للأمن النووي. وكان التعهد على هذا الشكل»بعد أن أفوز في الانتخابات سأكون أكثر ليونة»، في إشارة إلى ليونته في مسألة الدرع الصاروخية الأوروبية.

الإنجازان، أو الوعدان، إذاً هما ثمرة أربع سنوات من إعادة النبض إلى العلاقات الروسية ـ الأميركية أو يمكن التحديد العلاقات الودية بين أوباما وميدفيديف. حصل الكرملين على التعهد ويبقى أمام البيت الأبيض التنفيذ.

وفي هذه الأثناء يغض الكرملين الطرف عن التحليل الاستراتيجي لمستقبل البلدين بعد أيام، في حين لم تتخوف الدبلوماسية الروسية من توجيه ألذع الانتقادات إلى واشنطن، التي جاءت على شكل تقرير «حول حقوق الإنسان في الولايات المتحدة».

 
أصدرت وزارة الخارجية الروسية هذا التقرير ورفعته إلى مجلس الدوما الروسي وضمنته أشد الانتقادات لكل ما تمارسه الولايات المتحدة بالديموقراطية.

اتهمت روسيا في تقريرها واشنطن بتشديدها القيود على حرية الانترنت، وبحدها لحق المواطن في الاختيار، وباستخدام القوة في مواجهة التظاهرات السلمية، وبأنها البلد الوحيد الذي سمح باستخدام التعذيب في القرن الواحد والعشرين، كما اتهمتها بانتهاك حقوق المواطنين الروس الموجودين في الولايات المتحدة وانتهاك حقوق الإنسان في معتقل غوانتانامو… والقائمة تطول.

قد لا يكون هذا التقرير ذا وزن كبير على سير الانتخابات الرئاسية التي تتخوف أكثر من الانتقاد الداخلي، خاصة إذا ما كان الانتقاد من اللوبي اليهودي النافذ، إلا أنه من دون شك دفع الكرة إلى مرمى البيت الأبيض، وفي كل الأحوال ليس لروسيا ما تخسره في هذا المجال.
في الرابع من تشرين الثاني سيغادر المراقبون الروس موسكو متوجهين إلى الولايات المتحدة لمراقبة العملية الانتخابية.

 
اليوم، اختلفت صورة الكرملين وقائده في الداخل كما في الخارج، وتشعبت المشاكل والمهمات أمام بوتين ببروز المعارضة في الداخل وحالة الفوضى التي من حولها، ما جعل العلاقات الخارجية أقل أهمية مما كانت عليه في السابق وبالتالي تبقى مهمة السيطرة في الداخل من أولويات الساحة الحمراء، قد تليها ضرورة الحفاظ على حليفها في الشرق الأقصى: الصين، والاقتراب أكثر من القارة القديمة لما كسبته خلال السنوات الأخيرة من وزن على حساب أميركا الشمالية.

سواء فاز أوباما أو رومني، سيكون بوتين جاهزاً للاحتمالات كافة، لأنه خلال ثلاث ولايات اكتسب خبرة لا بأس بها بالتعامل مع الديموقراطيين والجمهوريين على السواء

.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *