تشومسكي.. أعذر من أنذر!!

كالعجوز التي تعالى بكاؤها وعويلها وسط عرس حاشد بصخب الغناء ودوي الزغاريد وفوضى أصوات الحضور.. حقا صدمت الحضور ولبدت أجواء فرحتهم بشؤم الفأل وسيئ الطالع، لكنهم لم يتوقفوا عند صراخها وعويلها للحيظة أو يكلفوا أنفسهم عناء الانصات لها والتحري فيما وراء سلوكها وليس التأمل في مغزى ما قامت به، مضى القوم في لهوهم ولم يفوتهم أن يتندروا بتلك المرأة وسلوكها الخارج عن المألوف.. ما هي الا بضع دقائق حتى انتهى العرس إلى سرادق عزاء كبير بعد أن التهمت النار هؤلاء الغافلين.

 
وكحال تلك العجوز اليقظة المتيقظة، كان توهج عقل المفكر الاميركي الثمانيني نعوم تشومسكي وسط طوفان الفرحة المزيفة بما يوصف بـ (الربيع العربي)، فقد خرج على العرب في بواكير تلك الحقبة التي نعيشها بتحليلات وتنبؤات بدت حينئذ صادمة لكن الأيام كانت كفيلة بإثبات عبورها للأزمنة والامكنة، فكيف للمرء أن يتجاهل الاستثمار الاميركي الرخيص لحالة الانفجار الشعبي وتحويل مجريات (الربيع العربي) إلى بيئة خصبة لاستعادة جزء من حلم الشرق الاوسط الكبير، كان الرجل وقتئذ يتكلم في واد والعالم العربي يسير في واد آخر انشغل فيه بتقاسم الغنائم الوهمية، فيما كان اللاعب الاميركي الاكبر ينتظر كلمة النهاية ليلقي بورقته الاخيرة
ويظفر بالغنيمة الكبرى.

منذ اسابيع قليلة عاد اليهودي العجوز صاحب الضمير الحي تشومسكي الى القاهرة حاملا عصاه ومطلا على ميدان التحرير ليُذكر عبر شرفة من احدى أدوات القوة الاميركية وهي الجامعة الاميركية بألاعيب واشنطن ومكرها ومخططاتها لمستقبل المنطقة، مضيفا فصلا جديدا وضروريا من فصول تنبؤاته التي يرى المرء طريقا معبدا لتحققها في أفق ليس بالبعيد، لا تفصله سوى تمدد مساحات الغفلة التي يعيشها القوم، واصرارهم على أن ذلك الخريف الملبد الغيوم ربيع يملأ عبق الورود والرياحين اجواءه.

 
أعاد الرجل اسماع من به صمم بأن الولايات المتحدة تقتنع فقط بالديمقراطية التي تتماشى مع مصالحها وترفض تلك التي تتعارض مع سياساتها أو تضر بمصالحها، لافتا الانظار إلى نتائج استطلاعات رأي عام أجرتها وكالات أميركية في العالم العربي، تفيد بأن أميركا لا تريد أن تعبر سياسات دول الشرق الأوسط كمصر وغيرها عن الرأي العام لشعوب المنطقة، وعلى الرغم من أن هياكل الديكتاتورية في بعض دول (الربيع العربي) كمصر وغيرها ما زالت كما هي، فإن انتفاضة شعوب المنطقة مثلت مبعث قلق حقيقي للغرب

.
ليس هذا بجديد، لكن الأخطر أن أستاذ علم اللغويات في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، حاول تسليط الأضواء على حقيقة الغنيمة الكبرى من وراء هذا التهافت الاميركي على التبشير بالديمقراطية وفق مقاييس الجودة الاميركية، عبر حديثه عن مواقف الرؤساء الأميركيين المتلاحقين من قضايا الطاقة والبحث عن مصادرها، بما فتح أعين الأميركيين على مناطق الشرق الأوسط بعد أن بدأوا يفقدون نفوذهم تباعا في أجزاء أخرى كانت تابعة بشكل شبة كامل في القرون الماضية لهم، مثل الصين ودول أميركا الجنوبية. فالأمر الأخطر بالنسبة للولايات المتحدة ـ ومن وجهة نظر تشومسكي ـ سيكون التحركات نحو استقلالية القرار في منطقة الشرق الأوسط، فصانعو القرار أدركوا منذ أربعينات القرن الماضي أن السيطرة على مناطق مخزون الطاقة في الشرق الأوسط لها علاقة كبيرة بالسيطرة على العالم.

وفق هذا التقدير الذي قرأه تشومسكي، وفي ظل الحرب العالمية الشرسة على مصادر الطاقة، فإن القدر المتيقن من الحقيقة أن احكام السيطرة الكاملة على النفط العربي ودون أدنى معارضة هو الغنيمة الكبرى لواشنطن ومن خلفها اسرائيل، أو ما يمكن وصفها بـ (الدجاجة التي تبيض ذهبا) والتي يهون امام عائداتها المربحة فاتورة ببضع مليارات من الدولارات أو ممارسة ضغوط وارهاب سياسي أو حتى تجييش جيوش تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لاستكمال هذا المسلسل الوضيع.

نظرة إلى الوضع الداخلي العربي، فقد سقط العراق فعليا من دوائر الممانعة لهذا الطموح بعد احتلاله وتأميم ثرواته النفطية لصالح كبار المضاربين الاميركيين، وتفتيت وحدته ببث وتعميق عوامل الطوأفة والعرقنة بما يحتاج عقودا لاستعاده نسيجه الواحد، ولم تكن ليبيا أفضل حالا من العراق بعد أن اجتاحتها جحافل الناتو والتهم اللاعبون الكبار ثرواتها تحت شعارات الديمقراطية الزائفة، أما عن مصر التي استعادت انتاج نظام الرئيس المخلوع مبارك بديكور اقتراعي يحافظ على جوهر المصالح الاميركية وأمن اسرائيل، فقد ذابت لدى جماعة الاخوان الاعتبارات الايديولوجية النظرية أمام كراسي السلطة، وحسمت برسالة الرئيس المصري مرسي الشهيرة لبيريز والتي اسقطت أي شعارات اخوانية قديمة معادية للنفوذ الاميركي والتطبيع مع اسرائيل، وتم ارشفتها على أنها مزايدات سياسية تفتح باب الوصول للسلطة.

لكن تبقى سوريا، تلك الكعكة الصلبة العصية على الالتهام حتى الآن، واخر المنغصات في طريق الحلم الاميركي، فما زالت محاولات الضعضعة قائمة لهذا الكيان العربي الشامخ، منذ أن تم استغلال مظاهرات مطلبية وتحويلها إلى اعمال قتل وعنف ونهب، تحالفت عبرها الميديا والمال وخبرات الافغنة والعرقنة لانهاك قوى سوريا وشل قدراتها وتحويلها إلى شيع، بغية استكمال مسلسل التفتيت والتجزئة والتقسيم وخنق أي صوت ينطلق بـ (لا)!!

وبالطبع فإن تهشيم مراكز الثقل في العالم العربي وتفتيتها يصب في مصلحة وخنق كلمة الـ (لا)، يحسم ملف السيطرة على مقدرات الثروات العربية، ويكرس منطق الاقطاعي والاقطاعية، والتي لن يتعدى سكانها كونهم اجراء يقتاتون بفتات موائد الكبار.. هذا هو المستقبل الذي اثار مخاوف تشومسكي ولا بد أن يرعبنا.. اذا كان في العروق مثقال ذرة من دماء!!

 

علاء حموده

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *