«حماس» تخطو خطوة عملاقة

بعد سلسلة من الوعود الإيجابية والادعاءات بأن حكومة وحدة فلسطينية ستظهر قريباً على أن تليها انتخابات جديدة وسريعة، لم يتحقق أي وعد على أرض الواقع وعادت الخصومة بين «فتح» و«حماس» إلى سابق عهدها.

كانت الأحداث في قطاع غزة لافتة خلال الشهر الماضي، فقد عمدت حركة “حماس” (تلك الجماعة الفلسطينية المتشددة التي تنشر عناصرها في الشوارع وهم يرتدون أقنعة سوداء ويضعون أحزمة انتحارية) إلى استقبال ضيف شرف باللباس الرسمي. وقف عناصر “حماس” بكل احترام على السجادة الحمراء التي فُرشت تكريماً لأمير قطر الذي وصل لقضاء بضع ساعات هناك في 23 أكتوبر، فبدت تلك المناسبة أشبه بزيارة رسمية حقيقية

. وصل الأمير وهو يحمل 400 مليون دولار كي يستثمرها في المنطقة الفلسطينية الساحلية، وهو مبلغ كبير حتى بالنسبة إلى حكومة لا تهرّب الدولارات في حقائب عبر الأنفاق كما تفعل “حماس”، لكن لو كان المال العامل المهم الوحيد في هذا المجال لنجح محمود عباس في حكم غزة، إذ ترسل سلطته الفلسطينية المتمركزة في الضفة الغربية الأموال سنوياً إلى غزة، وتبلغ قيمة تلك الأموال أربعة أضعاف المبلغ الذي حمله الأمير. لا تزال السلطة الفلسطينية تدفع رواتب 70 ألف أستاذ ومسؤول بيروقراطي توقفوا عن العمل حين طردت “حماس” حركة “فتح” التي ينتمي إليها عباس من المنطقة منذ خمس سنوات

. لا شك أن اقتصاد غزة كان سينهار من دون تلك الأموال، ولكن المال ليس العامل الأهم. تسعى “حماس” إلى كسب الشرعية اللازمة.
منذ بضعة أشهر، أعلنت وزارة الخارجية التابعة لحركة “حماس” أنها ستبدأ بتدريب الدبلوماسيين. كان يمكن اعتبار تلك الخطوة واعدة أو مضلِّلة لأن أحداً لا يرتبط بعلاقات دبلوماسية مع “حماس”. أخبرني مسؤول على الغداء في إحدى المرات: “لقد قابلنا السويسريين. بدأت أوروبا تتحاور معنا”. كانت سيارة ليموزين تنتظره في الخارج، لكن إلى حين مجيء الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، بقيت تلك الأمنية غير محققة.

قال إسماعيل هنية خلال استقبال ضيف الشرف: “إن زيارة الأمير تعلن رسمياً عن فك الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على غزة منذ أكثر من خمس سنوات”. يحمل هنية صفة رئيس الحكومة في غزة. في الضفة الغربية، يحمل سلام فياض الصفة نفسها، لكن يبدو الفرق بين الشخصين شاسعاً.

يعيش هنية في مخيم للاجئين ويلقي العظات خلال صلوات الجمعة، وهو يتمتع بمهارة سياسية معينة لكن تبقى مواقفه متطرفة بعض الشيء: حين قُتل أسامة بن لادن، اعتبر أن “محارباً مسلماً وعربياً استُشهد”.

في المقابل، حصل فياض على شهادة دكتوراه من جامعة تكساس وعمل في صندوق النقد الدولي، وتضمن هذه الميزة استمرار تدفق الأموال من أوروبا وواشنطن وهي تُبقيه في منصبه رغم الاحتجاجات الواسعة في أنحاء الضفة الغربية. هو أقرب ما يكون إلى “رجل الضرورة” في الأراضي الفلسطينية. حين تفاوضت “حماس” لإطلاق سراح 400 معتقل فلسطيني في السنة الماضية مقابل إطلاق جندي إسرائيلي واحد هو جلعاد شاليط، أقام المعتقلون الذين وصلوا إلى غزة في فندق فخم يطلّ على الشاطئ بدعوةٍ من “حماس”، لكن كان فياض هو من دفع التكاليف فعلياً.

ما كانت هذه التفاصيل ستأخذ أي أهمية لو بقيت الحركتان على طريق المصالحة. منذ أكثر من سنة، اتفقت حركة “حماس” الإسلامية وحركة “فتح” العلمانية على دفن الخلافات (لا يعني ذلك أنهما توقّفتا عن تبادل مشاعر الكره وانعدام الثقة، بل أدت رياح التغيير المعروفة باسم الربيع العربي إلى اضطراب السياسة الفلسطينية فجأةً). في غزة والضفة الغربية معاً، أراد المواطنون العاديون إنهاء الانقسام بين القيادات السياسية. فنزل الشباب إلى الشارع وبدأ أصحاب المراكز يرتجفون.

لكن بعد سلسلة من الوعود الإيجابية والادعاءات بأن حكومة الوحدة ستظهر قريباً على أن تليها انتخابات جديدة وسريعة، لم يتحقق أي وعد على أرض الواقع وعادت الخصومة إلى سابق عهدها. خسر مسؤولو “حماس” الذين يفضلون عقد السلام مع عباس، بقيادة خالد مشعل، أمام أعضاء “حماس” الذين أرادوا تولي السلطة بأنفسهم، وذلك لأن الربيع العربي كان يولّد حكومات تصبّ في مصلحة الإسلاميين السياسيين مثلهم.

لكن اتفاق الوحدة الأخير تم بوساطة أمير قطر، ما يبرر طريقة استقباله عند وصوله. منذ سنة، كانت الكفاءة السياسية الرسمية تنحصر في شخص عباس لأنه مسؤول معتدل وجدّي وقد تغير وضعه نتيجة الطلب الذي قدمه إلى الأمم المتحدة للمطالبة بإقامة دولة فلسطينية فأصبح زعيماً له شعبية (خلال السنة الماضية على الأقل). خلال 10 أيام، زار عباس سبعة بلدان في أربع قارات بحثاً عن الدعم في مجلس الأمن حيث تبخر مشروع العضوية الكاملة في الأمم المتحدة (ليتم استبداله هذه السنة بمكانة مهمة لكن أقل مستوى). في جميع المطارات، زاد زخم الاستقبال الذي كان يتلقاه عباس. أشار وجود حرس التكريم إلى اعتراف كامل بدولة فلسطين.

 في عواصم جمهورية الدومينيكان والسلفادور وفنزويلا وكازابلانكا، قوبل عباس بحفلات استقبال فخمة، فرفع الجنود السيوف عالياً في كاراكاس حيث نظّم هوغو تشافيز المناسبة. (أشاد أعوان عباس بدوره في إبعاد الرئيس الفنزويلي عن محور إيران وبالتالي “حماس” من خلال استخلاص ذلك الموقف المعتدل منه). لكن في بوغوتا، العاصمة الأهم، كان الاستقبال خجولاً، حتى لو لم يلاحظ أحد غياب حراس التكريم، ركزت الصحافة على اعتبار الحدث زيارة عمل أكثر منها زيارة رسمية. (هذا ما قاله رئيس مجلس أوروبا بعد زيارة عباس: “يصعب أن يكون الفرد رجل دولة من دون دولة شرعية”. لكن أكد مسؤول في المجلس ضرورة التماشي مع الوضع القائم بانتظار نشوء دولة مماثلة. إنه جزء من “الاعتراف” بالسيادة: إنها رموز كيان الدولة).

دعمت معظم الدول الأخرى في أميركا اللاتينية مشروع الدولة الفلسطينية ما عدا كولومبيا التي مثّلت المنطقة في مجلس الأمن وأعلنت أنها ستتابع طلب الولايات المتحدة التي أرسلت مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار إلى بوغوتا خلال العقد الماضي. يعني ذلك أن المال له أهمية كبرى، لكنه ليس كل شيء: بعد بضعة أيام، صوتت منظمة اليونسكو للاعتراف بفلسطين كواحدة من الدول الأعضاء فيها.

قال هايل الفاهوم، السفير الفلسطيني في باريس: “إنها المرة الأولى التي نأخذ فيها المبادرة. بدأنا نستنتج أننا نستطيع فرض هويتنا على الساحة الدولية”… هذا ما تقوم به “حماس” اليوم.

*مدير سابق لمكتب صحيفة “تايم” في القدس منذ عام 2010 وكان يغطي أحداث إسرائيل والأراضي الفلسطينية والدول المجاورة. عمل طوال 16 سنة في صحيفة “واشنطن بوست” في نيروبي وإسطنبول وبغداد ولوس أنجلوس وروكفيل (ماريلاند

).

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *