قد نشهد انهيار اليورو في المرحلة المقبلة
تلوح في الأفق خطة إنقاذ شاملة لمصلحة إسبانيا، وقد تُطرَح خطة أخرى لمصلحة إيطاليا أيضاً، لكن يستمر الشلل في اليونان بسبب الإضرابات العامة التي دامت 48 ساعة احتجاجاً على موجة جديدة من تدابير التقشف.
يجب ألا يستخف أحد بقدرة منطقة اليورو على التفوق على الولايات المتحدة في ما يخص الأزمة المالية، فبعد صدور الخطابات من الحزبين الأميركيين غداة الإعلان عن النتائج الانتخابية، تبخرت الكلمات المعسولة سريعاً وتدفقت التعليقات التي تنذر باقتراب الولايات المتحدة من حافة الهاوية بسبب الأزمة المالية.
لكن من المتوقع أن تواجه منطقة اليورو، وليس الولايات المتحدة، مأزقاً مالياً أكثر خطورة في الأسابيع المقبلة.
خلال الشهر الماضي، برزت بيانات اقتصادية مقلقة من تلك المنطقة التي تستعمل عملة موحدة. أصدرت اللجنة الأوروبية منذ أيام تنبؤات تشاؤمية عن الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فيما كانت جميع الأنظار موجهة نحو الولايات المتحدة، وكأنها أرادت بذلك تطبيق القاعدة المألوفة التي تقضي بالتركيز على الأحداث السعيدة لدفن الأنباء السيئة. انعكست هذه الأرقام سلباً على الأسواق أكثر مما فعلت المشاكل الملحّة الناجمة عن عجز الميزانية الأميركية بعد فوز أوباما.
تنذر جميع المؤشرات بأن أزمة منطقة اليورو ستتجدد قريباً، وتشير الأرقام الصادرة عن الدول الأعضاء في منطقة اليورو وعن مكتب الإحصاء الأوروبي “يوروستات” في بروكسل إلى نشوء مشاكل خطيرة في المرحلة المقبلة.
بلغت معدلات البطالة في أنحاء منطقة اليورو مستوى قياسياً جديداً يصل إلى 11.6% ولا تزال ضغوط التضخم مستمرة. بعد رفض تخفيض قيمة العملات الخارجية، بدأ انخفاض العملة الداخلية يُمعن في إضعاف النشاط الاقتصادي وتراجع الأجور في الأنظمة الاقتصادية الهشة المختلفة. في إسبانيا حيث يبلغ معدل البطالة اليوم حوالي 26%، يبدو هذا الخليط من العوامل بالغة الخطورة.
كلما زادت قوة الضغوط التي تعزز حالة الركود، صعب على الحكومات أن تخفّض أعباء ديونها، إذ يبلغ الدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي 90% اليوم، وما من مؤشر على تراجع هذا المعدل في أي وقت قريب.
لا عجب أن بعض البلدان، مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، تعبر عن مخاوف عميقة بسبب غياب الحلول وانهيار الفرص المحتملة. تلوح في الأفق خطة إنقاذ شاملة لمصلحة إسبانيا وقد تُطرَح خطة أخرى لمصلحة إيطاليا أيضاً، لكن يستمر الشلل في اليونان بسبب الإضرابات العامة التي دامت 48 ساعة احتجاجاً على موجة جديدة من تدابير التقشف.
منذ بضعة أشهر فقط، بدا وكأن الغيوم السوداء التي تفرضها أزمة اليورو بدأت تتبخر بعد أن تعهد ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، ببذل كل ما يلزم لتجنب التقصير بدفع الديون السيادية وانهيار عملة اليورو. اليوم، بدأت تلك الغيوم السوداء تتجمع من جديد ويبدو أن وعد دراغي سيذهب أدراج الرياح.
يتعرض البنك المركزي الأوروبي لضغوط متزايدة من أجل تفعيل خطة شراء السندات (برنامج “التعاملات النقدية المباشرة”) لمساعدة الحكومات الإسبانية واليونانية والإيطالية. لكن يخشى الكثيرون أن تتلاشى ثقة الأسواق ببرنامج “التعاملات النقدية المباشرة”. بدأت عائدات الحكومة الإسبانية ترتفع مجدداً بعد المستويات المتدنية التي بلغتها غداة إعلان دراغي الأولي.
لكن وفق القواعد التي ربطها دراغي بعرض برنامج “التعاملات النقدية المباشرة” (أي أن الحكومات يجب أن تقدم في المقام الأول طلباً رسمياً للحصول على المساعدة المالية بموجب تلك الخطة)، ما من سندات حكومية يستطيع شراءها في حال عدم تقديم طلب رسمي لتلقي المساعدة. أوضح المسؤولون في البنك المركزي الأوروبي أن الإيرلنديين والبرتغاليين لم يكونوا مؤهلين للمشاركة في برنامج “التعاملات النقدية المباشرة” لأنهم ما كانوا قادرين على الوصول إلى جميع الأسواق. يبدو أن البنك المركزي الأوروبي ليس بمزاج يسمح له بلعب دور “الطبيب المعالج” نظراً إلى المراقبة الوثيقة التي تفرضها ألمانيا عليه.
تحولت الأنظار مجدداً إلى اليونان لمعرفة مدى القدرة على دفع أموال إضافية لتطبيق خطة الإنقاذ، لكن يبدو أن الحكومة الألمانية مستاءة من التحولات الأخيرة في الأحداث. إلى متى تستطيع اليونان الصمود من دون الحصول على المال؟ أعلنت الحكومة اليونانية سابقاً أنها ستخسر جميع أموالها في 16 نوفمبر، لكن يسود افتراض عام مفاده أنها ستتمكن من الصمود حتى بداية شهر ديسمبر عند الاقتضاء. يتمنى الكثيرون حدوث ذلك على أمل ألا تطرح الأحداث في البرتغال وإسبانيا اختباراً صعباً آخر يعيق شروط تمويل خطط الإنقاذ التي طرحها دراغي، لكن يصعب الرهان على ذلك.
لا يعني ذلك الاستخفاف بالصدمة الاقتصادية العالمية التي سيسبّبها المأزق المالي الأميركي: من المنتظر أن يهتز الاقتصاد في شهر يناير نتيجة ارتفاع الضرائب بقيمة 600 مليار دولار وتخفيض الإنفاق؛ لذا يخشى البعض أن تعيق هذه التدابير مسار التعافي الاقتصادي في الولايات المتحدة أو أن تعيد البلد إلى حالة الركود. كان احتمال أن يضطر الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى متابعة برنامج “التيسير الكمي” السبب الرئيسي الذي أدى إلى إضعاف قيمة الدولار منذ أيام.
لكن ما عمق المشكلة المرتقبة؟ وفق معطيات مكتب الميزانية في الكونغرس هذا الصيف، سيؤدي استمرار المسار الراهن إلى انخفاض عجز الميزانية بين عامي 2012 و2013 بقيمة 607 مليارات دولار. حتى الآن، سينجم أكبر جزء من الانخفاض عن رفع الضرائب. سيكلف انتهاء صلاحية “تخفيضات بوش الضريبية” في 31 ديسمبر 221 مليار دولار من المجموع، وسيكلف وقف تخفيض ضرائب الدخل 95 مليار دولار.
بالتالي، سينجم ثلثا التخفيضات المرتقبة في عجز الميزانية عن زيادة الضرائب، وفي المقابل، سيتراجع العجز بقيمة 65 مليار دولار نتيجة تخفيض الإنفاق، ولن تمهد تدابير تخفيض ضرائب الدخل بعد انتهائها لارتفاع الضرائب مجدداً، وقد اعتبر الخبير الاقتصادي ستيفن لويس أن “تخفيضات بوش الضريبية” أعطت ثمارها لفترة طويلة بما يكفي لتترسخ ضمن خطط دافعي الضرائب، وسيشعر الجمهوريون بأنهم مضطرون لمعارضة مطلبهم السابق.
هل يستطيع الرئيس أوباما ضمان أي اتفاق في هذا المجال؟ يدعي الجمهوريون أن نجاحهم في انتخابات مجلس النواب يمنحهم التفويض اللازم لرفض زيادة الضرائب كوسيلة لتخفيض العجز. سيتوقف الكثير على قدرة الاقتصاد الأميركي على الصمود. يُعتبر استمرار تراكم الدين الأميركي تهديداً للاستقرار المالي العالمي وقد تؤدي زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق إلى كبح النمو. قد يمهد تسجيل معدل نمو بنسبة 2% إلى فتح مجال بسيط أمام زيادة الضرائب أو تخفيض الإنفاق.
سيكون الرهان صعباً في هذا المجال، لكن من المتوقع التوصل إلى اتفاق معين، ويأمل الكثيرون الآن أن تحافظ السياسة النقدية على فاعليتها لتعزيز تدفق الإقراض المصرفي للشركات والمستهلكين. أصبحت كلفة الطاقة أرخص في هذا البلد (سعر البرميل أقل بـ20 دولاراً من أوروبا)، ولا ننسى قدرة الولايات المتحدة على أخذ المبادرات من أجل كسب أرباح طائلة من اقتصاد الإنترنت.
في المقابل، تتعلق أكبر مشاكلنا بعجز أو عدم رغبة منطقة اليورو في التكيف مع المأزق المالي الخاص بها بعد أن أصبح الموقف الرسمي في تلك الأنظمة الاقتصادية “على المحك” بكل معنى الكلمة