عرض لـ “كتاب فوكوياما” الجديد: والدعوة لبداية التاريخ
لماذا لا يمارس الصوماليون الديمقراطية التي تقول انها حكم الشعب؟ ولماذا يمارسها الدنماركيون بامتياز إنساني دون منغصات او حروب جانبية؟ هذه الاسئلة هي عتبة ما طرحه الكاتب الاميركي الياباني فرانسس فوكوياما في كتابه الجديد (بداية التاريخ) الذي يبدو بعنوانه وكأنه تكفير عن خطيئة كتابه المثير للجدل (نهاية التاريخ).
حديث الديمراطية في الدنيمارك ترتبط بطبيعة الشعب الدنيماركي الذي يقول عنه فوكوياما بانه: “بلد مستقر، ديموقراطي، مسالم، هادئ، متماسك حيث مستوى الخلاف أو التصادم السياسي منخفض جداً بالمقابل كل العالم يريد أن يعرف كيف يمكن أن يكون عليه التحول في الصومال، هايتي، نيجيريا، العراق وأفغانستان الى نموذج شبه النموذج الدنيماركي” اي ان طبيعة الشعب والاستقرار والمسالمة والهدوء والتماسك الشعبي هو الاساس الاجرائي لتنفيذ اية فاعلية للديمقراطية، والتي تمارسها مؤسسات يثق فيها الناس والعالم، ولا تجرح معطياتها احدا، سواء على مستوى تطبيق القوانين العامة او اجراء الانتخابات او شرعنة الاقتصاد المفتوح، او مواجهة اي شكل من اشكال التطرف والغلو الذي يمكن ان يأخذ من الحقوق العامة لحساب حقوق خاصة!
الديمقراطية ليست تسلية، وليست خطابات (عاوية) بل هي ممارسة في العقل والعمل، وسلوك يقوم على التنظيم. وحين يتحدث فوكوياما عن عقلنة الديمقراطية وانها عودة لبداية التاريخ بعد ان انتهى التاريخ القديم مع موت الدوغمائية الايديولوجية الكبرى، لكنه يقرنها بفعاليات تؤكد على اهمية تكريس قيم الاقتصاد المفتوح، واصلاح نظم التنمية والتعليم والحقوق، وحين يدعو لتطبيق الديمراطية بوصفها حاجة للشعوب في أفريقيا وآسيا، فانه يتحدث عن ضرورة ان تقوم “المجموعة الدولية بالمساعدة لتطور هذه البلدان، حيث تضع قائمة بالمعايير والاصلاحات الهيكلية والمؤسساتية والتي تعرف باسم (التجربة الدنيماركية) ووضعها بتصرف البلدان التي تعاني الى الآن اخفاقات”، اي ان(التجربة الدنيماركية) التي لا تشبه تجربة عادل امام في فيلمه الشهير! تقوم على اسس البناء العملياتي والحقوقي للمؤسسات، اذ لا ديمقراطية من دون مؤسسات، ودون قوانين تكفل عمل هذه المؤسسات، ودون ثقافة ترسخ الوعي بالديمقراطية واحترام عمل المؤسسات، ودون ديمقراطيين يؤمنون بالتنوع والتعدد ومبدأ الخسارات المتبادلة.
• فوكوياما.. والعالم متغيرا!
طروحات فوكوياما تضع التاريخ تحت حسابات ايديولوجية، لكنها حسابات (شاطرة) اي تستخدم الميزان والمسطرة والازميل، وكل خروج عن القياس سيتعرض للقطع. ايديولوجيا القطع تحولت بالتكرار والاسناد والدعاية والتثقيف! الى ممارسات والى عادات والى نوع من (الثقافة) المؤنسنة والمتعولمة، حتى بات الحديث عن مسمى (الديمقراطية) تمارسه اطلاقه الشعوب الاخرى فقط، لان الحكم في دول (التجربة الدنيماركية) تجاوز خطاب هذا المسمى واصبح عالمها منظومة من المؤسسات والمواطنة والحق الشخصي وفكرة الفرد الذي يملك حقوقه بوصفه فردا في المجتمع، وطبعا هذا الكلام الاصلاحي جدا غير موجود في العالم الذي نعيش، حيث الديمقراطية (كلام صاخب) وممارسة في قهر الاخرين وفي صناعة المزيد من المراكز العصابية، وربما يضع البعض بالمقابل الديمقراطية بمستوى الكفر لانها غير واردة في الشرع، وان (التثقيف) بأدبياتها يعني بالضرورة الحديث عن استعادة ما تكرس في التاريخ من مقاييس لمفهوم الحكم، وبكل ما يحمله هذا الحكم من صور لقوة السلطة التي مركزت الثروة والعنف، وان الديمقراطية في هذا السياق تعني الطاعة والتابعية مقابل الحصول على حق الاكل والشرب والنوم والجنس والتبجيل لقوة المركز العصابي، وان موضوعة الفرد بوصفه مادة حقوقية تعني تخريبا للامة التي تقوم على ثقافة الحشد والطاعة.
هذا المعطى لتوصيف الديمقراطية تعني البقاء عند حديث (نهاية التاريخ) الذي تحدث عنه سابقا فوكوياما، اذ يضع النهاية مقابل نهاية افتراضية لصراع بين ايديولوجيات معينة، لكنه يضع هذا القياس على شعوب ويطردها عن شعوب اخرى تعيش ما دون التجربة الدنيماركية، لذا هو يدعو (الجماعة الدولية) لاستخدام هذه التجربة كشفرة للتعليم والتنمية والخلاص من اسر وهيمنة التاريخ الميت الذي اماته فوكوياما بعد نهاية الدولة السوفيتية الكبرى..
• الصين وتجارب فوكوياما
حين يتحدث فوكوياما عن التجربة الاقتصادية الصينية، فانه يتحدث عن الجانب الهارب من الايديولوجيا باتجاه صناعة (الرأسمال) اي ان التجربة الجديدة للصين هي النقيض للصين الماوية التي تمزج ما بين المركز الايديولوجي والمركز العسكري والمركز الاقتصادي، اذ خرجت هذه المركزيات عن عباءة القوة الى فضاء اكثر تحررا، واكثر قدرة على مواجهة حركة الرأسمال الجديد في الغرب واميركا، وربما مهددا له. في هذا الكلام هناك الكثير من الغزل للتجربة الصينية، لان هذه التجربة باتت هي العنصر المهدد للمركز الاقتصادي العالمي، وان اتساع قاعدة الصين الانتاجية ورفض الصين لاستخدام الدولار مثلا كعملة دولية يعني إحداث اكبر الضرر بما يسمى باقتصاديات المراكز العابرة للتاريخ، والصانعة لما يسميه فوكوياما بـ (ولادة التاريخ).
اصلاح الاقتصاد وقوته قد تشبه من منظور برغماتي الاصلاحات الحقوقية، فاذ يضع فوكوياما التجربة الصينية في سياق اقتصادي، فانه ينسى السياق الحقوقي الذي يكرره دائما عن الانتخبات وعن الاصلاحات وعن الافراد وعن الحريات المدنية، وهذه الطروحات تكشف عن الصين قابلة للتخلص من الدوغما القديمة، وانها تملك القابلية الداخلية لان تكون دولة ليبرالية بالمعنى الاقتصادي، اي العمل في سياق السوق المفتوح، وفي مجال التجارة العالمية والضرائب وغيرها من اسس الاقتصاد الليبرالي! لكن فوكوياما لم يتحدث بالمقابل عن الدعوة للمجموعة الدولية للاستفادة من التجربة الصينية في مجال التنمية والاصلاح الاقتصادي وبناء الدولة التي يرتفع فيها الدخل القومي للفرد الى معدلات كبرى والتي لا توجد فيها بطالة بالمعنى الذي تعيشه الكثير من دول اوربا واميركا.
• فوكوياما والتجارب العربية الجديدة
ما حدث في الجغرافيا السياسية العربية يضع المنظور اليها بمستوى البحث عن هوية هذا (الماحدث) اذ تحولت التفجرات الاجتماعية الى غضب سياسي، والى شكل اكثر غموضا للثورات الداخلية، لكن فوكوياما يزيحه عن لحظته الحاضرة وربطه بتداعيات حدثت في بدايات القرن التاسع عشر، اذ يؤكد انطلاقا من قول “المؤرخ لحقوق الانسان نوافيلدمان بأن صعود الاسلام في بداية القرن التاسع عشر والدعوة العالمية للعودة الى الشريعة في العالم العربي هما انعكاس عميق في مواجهة تلك السلطوية لحكام الأنظمة العربية المعاصرين في المنطقة”.
هذا التغييب لحاجات الناس للديمقراطية بمعناها الانساني والاجرائي وللدولة العادلة وللبيئة الحقوقية يعكس ازمة النظرة المتعالية للواقع العربي، لان هذا الواقع محكوم عليه بالتموضع عند الفكرة القديمة لـ (نهاية التاريخ) باعتبار ان الحكم العربي هو حكم شمولي وفيه الكثير من الدوغمائية، وان المواطن العربي هو مواطن تابع للمركز العصابي والايديولوجي، وان ما حدث كما يقول فوكوياما هو “انعكاس لنوستالجيا الزمن حيث كان فيه الحاكم التنفيذي يحتكم الى الشريعة واحترام القانون. وأنا مقتنع بأن الدعوة للعودة الى الشريعة يجب ألا تفهم على أنها حركة ردة فعل رجعية بالعودة الى أزمان غابرة، ولكن كتعبير عن رغبة لدى الشعوب العربية والاسلامية بقيام أنظمة سياسية أكثر توازناً، حيث السلطة تنفذ بطريقة أكثر قابلة للتقدير والتوقع”.
ان رؤية فوكوياما لطبيعة الازمة التي تعيشها الوقائع العربية وهوية (ثوراتها) ومرجعيات القوى الفاعلة فيها يغفل عن رؤية القوى السرية التي (تصنع) ازمات التموضع في التاريخ، بوصفه تاريخ ازمة وتاريخ صراعات، وتاريخ استلابات تكرست فيها قوة الخرافة، وقوة المركز، والتي اسهمت الى حد كبير في تعطيل مايسمى بـ (الاصلاحات) التي يمكن ان تشرعن النظر الى مفهوم الدولة المؤسسة وليس الدولة (النسخ) التي برزت ظاهرتها في اغلب الدول العربية في مرحلة ما بعد نهايات الحربين العالميتين الاولى والثانية، اذ جاءت هذه الدول بمراكز ذات منزع ثوري استعادي للضياع القومي النوستالجي والعقائدي، لكنها متماهية مع المراكز العصابية التي صنعت لنا ديكتاتوريات مرعبة اسهمت في صناعة المزيد من المراكز الايديولوجية والطائفية والعسكرية، مقابل تعديم اية فكرة حقيقية للاصلاح، اذ ان التنميات العربية رغم وجود الثروات الهائلة لا ترتقي حقا الى دولة صغيرة مثل الدنيمارك، وان التعليم فيها لا يشبه ما هو موجود في الدنيمارك ايضا، وبالتالي فان الديمقراطية ستكون شوهاء وغائمة ومضللة، وهي ما تستدعي فوكوياما للحديث عن ضرورة دعو المجموعة الدولية للاستفادة من (التجربة الدنيماركية) لتطبيق فكرة الاصلاح في بلدان لا تزال تعيش مرحلة نهاية التاريخ مثل الصومال.