مناديل ورقية
الأشياء تُصنَع لتبقى وتدوم. كانت تلك فكرة كلاسيكية أصيلة، ولم يعد لها مكان في عالم اليوم، وجاءت بدلاً منها فكرة أن الأشياء تُصنع لتُستهلك خلال وقت قصير. لقد كان الصنّاع والحرفيون في الأزمنة السالفة يعكفون على مصنوعاتهم من أثاث وأوان وتحف ومشغولات، كما يعكف الفنان على قطعته الأثيرة، يحوطها بالتجويد والصقل لتبقى وتتناقلها الأجيال. لذلك كانت المقتنيات الحياتية أشبه بالإرث تُصنع لتدوم مدى الحياة، ومن هنا جاءت فكرة بيت العمر، بكل ما يحتوي هذا البيت من أثاث وسجاد وأسرّة وتحف… إلخ ، والذي يتحول مع تقادم الزمن إلى (أنتيك) تتضاعف قيمته المادية والمعنوية.
بيد أن موضوع تكريس الأصالة هذا ما عاد يلقى رواجاً أو التفاتاً في هذا الزمن، فكل الأشياء الآن تُصنع لتُستهلك وتُستبدل ويتم التخلص منها في أسرع وقت. وأعتقد أن هذا الهوس بالاستغناء والاستبدال بدأ مع اختراع المناديل الورقية التي تُستعمل لمرة واحدة لا غير. ومن يومها أصبح كل ما حولنا يقتفي نهج المناديل الورقية، ليصبح بلا قيمة في أقل وقت ومهيأ سلفاً للاستبدال بغيره: الملابس والأجهزة الكهربائية والأثاث والسيارات وحتى البيوت والهياكل المعمارية التي ما عادت (بيوت عمر) ولا إرثاً، وإنما مجرد أبنية تتعرض بين عام وآخر للتعديل والتغيير، وربما الهدم الكلي لينبت مكانها مبنى آخر بلا هوية ولا تاريخ
.
ويبدو أن هذا المزاج العام اللاهث المتقلب الذي لا يقف ليتأمّل ويتأنى، هذا المزاج لم يعد مجرد نمط استهلاكي، وإنما بات سمة نفسية وفكرية لإنسان العصر. فحتى العلاقات والمشاعر والصداقات غدت كالمناديل الورقية (disposal)، وبات الجميع يقفز من (صديق) إلى (صديق) عبر الفيس بوك والتويتر والانستغرام، وينقر زر (add)/ (إضافة) أو (block)/ (حجب) بأسرع من البرق!
وبذات السرعة الإنترنتية بدأت تتآكل الكتابات الجميلة والأفكار العظيمة، التي تكاد لا تبزغ على الشاشات الإلكترونية بعد كدّ وجهد حتى تتوارى في لمح البصر، فليس للشاشة عهد ولا ولاء، وإنما هو اللهاث وراء المشهد التالي والصورة اللاحقة و(التغريدة) التي وردت للتو! وسقى الله أياما كانت الأفكار والكتابات تُتداول عبر المصنفات والكتب، وأياما كانت المؤلفات تُقتل بحثاً ودراسة على مدى عقود ودهور حتى تخالط ضمير الشعوب وتشكل ذائقتهم الأدبية وتصنع هوياتهم. أحاول أن أفكر الآن في كتاب حديث استطاع أن يبقى لعام واحد فقط قيد البحث والتداول، فلا تسعفني الذاكرة. لا لقلة في التأليف ولا لضمور في المواهب، وإنما هو عصر (الديسبوزال – (disposal، حيث الأشياء تأتي لتذهب وتبزغ لتتلاشى بلا أثر!
ولعل المسألة لا تقف عند مسألة انعدام الأصالة في أشيائنا الحياتية المعرضة للاستغناء والاستبدال، حين المقارنة مع الآثار الباقية الخالدة في الفنون الكلاسيكية والمدن الأثرية، وإنما ينصرف التفكير إلى مدى قدرة أدواتنا ومخترعاتنا الحديثة على حفظ ذاكرة الشعوب وتاريخها. طالما سألت أبنائي وهم يعرضون عليّ صورهم في المناسبات والمواقف المختلفة عبر شاشة الآي فون أو اللاب توب، عن مدى قدرة الشريحة الإلكترونية (chip) على الاحتفاظ بهذه الصور ليراها أحفادهم! بينما كنت ولا أزال أتباهي بألبومات الصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض حيث لا تزال صور جدهم وجدتهم ماثلة أمامهم رغم الزمن والسنوات. فهل يا ترى تستطيع هذه الشريحة الإلكترونية الأشبه بالوهم والافتراض، والأصغر من فتفوتة الخبز أن تبقى وتدوم عبر الأزمنة؟
وبالعودة إلى تأمل حال شريط الحياة العصرية الذي يتدفق كالسيل، لا يملك أحدنا إلا أن يعي كيف تغير مفهوم الزمن وفلسفته عما كان عليه. فعلى قدر ما كان زمن الأولين يمرّ مسترخياً أليفاً مفعماً بحسّ المعايشة، متطلعاً إلى البقاء والخلود من خلال الآثار الشاخصة والمآثر الباقية، يأتي زمننا هذا عجولاً مرتَجَلاً، يمتطي ظهر الزوال والصيرورة بلا التفاتة أو ندم.