واشنطن تستعد لفتح أبواب التفاوض مع موسكو وطهران
لم تكد نتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية تظهر، حتى باشرَ باراك اوباما باتخاذ الخطوات التحضيرية للمفاوضات المنتظرة مع ايران وروسيا من خلال بوّابة الأزمة السورية.
ولأنّ أولى أولويات هذه المفاوضات تتطلب جهوزية ووضوح الفريق الذي من المفترض ان يمثّل المعارضة، توَلّى السفير الاميركي في دمشق، والذي ترك سفارته منذ مدة بعيدة، ترتيب هذه المجموعة وفق الأسس والعناوين التي تريدها واشنطن، أي على اساس تحجيم حضور القوى الاسلامية الى الحد الادنى الممكن، وذلك بعد “دروس” ليبيا، وبعد التمدّد المخيف للإسلاميين المتشددين والتنظيمات الارهابية على الساحة السورية.
وعلى هذا الأساس، أشرفَ فورد على عملية تفكيك المجلس الوطني الذي كان قد شهد ولادته في تركيا وتمّت رعايته السياسية والدعم المالي من قطر. ولأنّ أنقرة كانت قد توَلّت هندسة هذا المجلس، فإنّ “الاخوان المسلمين” نالوا حصة واسعة، ما سمح بتنامي التيارات الاسلامية المتطرفة تحت جناحيها.
وفي التركيبة الجديدة التي توَلّت قطر احتضانها، ولكن تحت انظار السفير الاميركي روبرت فورد، ولدت مرجعية المعارضة السورية (على ما هو مفترض) لتكون جاهزة لحظة انطلاق مفاوضات التسوية السلمية للأزمة السورية، أو ما بات يُعرف بالطائف السوري.
لكن هذه الخطوة، وعلى رغم أهميتها، لا تشكّل سوى بداية متواضعة لهذا المسار الصعب. ذلك أن الرئيس الأميركي المُجَدّد له، يدرك التشابُك الكبير الذي يصيب الساحة السورية، اضافة إلى واقع إدارته الذي يتحضّر لسلسلة تعيينات فيها، وكلّ ذلك يتطلّب بعض الوقت.
فمِن المفترض ان ينجز الرئيس الأميركي سلة التعيينات الأساسية في ادارته نهاية هذا العام، لتبدأ ماكينته بالعمل مع مطلع العام المقبل. وفيما العمل جارٍ على إقناع جون كيري بتوَلّي حقيبة الخارجية، وهو الذي يفضل عدم خسارة دوره في الكونغرس، بدأت المشاورات حول الأسماء التي ستشرف على ملفات التفاوض مع كل من طهران وموسكو.
وحسب أحد الديبلوماسيين المعنيين، فإنّ الإدارة الديموقراطية تشعر بأن الوقت قد حان لولوج باب المفاوضات لألف سبب وسبب، يبقى ابرزها انّ جميع الاطراف باتت تشعر بالتعب والارهاق من التطورات التي طبعَت السنوات الاخيرة، ما يجعلها اكثر قبولاً للدخول في تسويات وفق سقف معقول.
فروسيا نجحت في استعادة دورها المحوري، وهي تدرك انها وصلت الى الحد الأقصى في تمَددها، ما يجعلها ترغب بتكريس حضورها الجديد رسمياً من خلال انتزاع اعتراف غربي بذلك، خصوصاً وأن لديها ملفات مكدسة مع واشنطن تنتظر لحظة الجلوس على الطاولة لإنجازها.
وإيران تبدو مرهقة بعض الشيء نتيجة الحصار الاقتصادي المفروض عليها، والذي أدّى إلى تراجع في قيمة عملتها، ما يهدّد الحركة الاقتصادية، وبالتالي الاستقرار السياسي الداخلي.
وهنالك توَجّه في الادارة الاميركية بأنّ ايران المهمة جداً لواشنطن، خصوصاً بالنسبة لموقعها الجغرافي، فإنها وفي حال نجاح المفاوضات، ستشكل سوقاً كبيرة جداً للشركات الاميركية، كونها، وبعد كل هذه الفترة من الحصار، تبدو بحاجة تقريباً لكلّ شيء، وهذا ما يشكّل حاجة اميركية وسط الازمة الاقتصادية الحاصلة.
وكذلك تبدو تركيا مرهقة، لا سيما إزاء الاضطرابات الامنية في جنوب البلاد مع الاكراد، اضافة الى تصاعد التوتر المذهبي في البلاد، ما يهدد استقرارها الداخلي السياسي والأمني. وتعتبر واشنطن تركيا خطاً أحمر في نظرتها الاستراتيجية للمنطقة، نظراً لموقعها الجغرافي، ووقوفها سداً طبيعياً بوَجه روسيا، وقدرتها على التوازن الإقليمي مع ايران.
وكذلك الخليج العربي بات يعيش وضعاً دقيقاً نتيجة المخالب الايرانية التي تَخنق البحرين، وتهدّد الاستقرار السعودي في المنطقة الشرقية، وحيث يزداد النفوذ الايراني في اليمن، فيما الكويت تبدو على كف عفريت. وهذا ما يعني ضرورة إعادة تحصين واقع دوَل الخليج قبل أن تتوسّع الأضرار في ظلّ حافز اسمه “الربيع العربي”.
وهنالك مَن يعتقد انّ واشنطن تقف أمام خيار من اثنين:
إمّا دفع الأمور في دول الخليج إلى إحداث تغيير داخلي تحت الرقابة المشددة لواشنطن، ما يمنح هذه الدول مرحلة جديدة تحت الرعاية الأميركية الصارمة والمباشرة،
وإمّا تأجيل ذلك في هذه الفترة حيث يُبدي انصار الرأي الثاني خوفاً من نجاح التيارات السلفية في الانقضاض على مفاصل السلطة والإفلات من الرقابة الاميركية.
وكذلك، فإن لبنان يبدو مُنهكاً من الاحداث السورية، وهو يكاد يتفجّر من الداخل كل يوم تقريبا.
وفي سوريا، فإنّ طرفي النزاع باتا مرهقين بدليل عدم تمَكّن أيّ طرف منهما من السيطرة على كامل حلب او حتى العاصمة دمشق، ما ادى الى إرساء خطوط تماس داخلية.
كلّ هذا يحدث على رغم إقرار واشنطن بأن الرئيس السوري قادر على الصمود عشر سنوات في ظلّ الأوضاع الحالية، ولكن من دون استعادة سيطرته على كامل البلاد. لأجل كلّ ذلك، تعتقد واشنطن انّ الظرف حان للتقدم نحو تسوية ستبدأ معالمها بالظهور مع مطلع العام المقبل.
لكنّ الإدارة الديموقراطية تدرك جيداً انّ اسرائيل ستكون حاضرة للشغب على أي مفاوضات قد تحصل مع ايران، خشية من نجاحها، وبالتالي من تراجع الاعتماد الأميركي على دَور اسرائيل في المنطقة.
وينقل ديبلوماسيون اوروبيون عن أحد المسؤولين الاميركيين قوله إنّ ولوج مرحلة تسويات في الشرق الأوسط تستوجب حكومة اسرائيلية مواكبة لذلك. وهو ما فهم بوجود رغبة اميركية باستبدال حكومة نتنياهو. وكان واضحاً دور نتنياهو المعارض لعودة أوباما إلى البيت الأبيض، ما يؤشر الى وجود نيّة اميركية لحلول حكومة اخرى مكان الحالية.
ولذلك، هناك مَن يقرأ في التصعيد العسكري الاسرائيلي ضد غزة محاولة لإفلات نتنياهو من “القصاص” الاميركي، اضافة الى رفع منسوب التوتر في المنطقة للالتفاف على تحضيرات التسوية الأميركية.
وعلى رغم ذلك، لا بدّ للبنان من مواكبة “رياح التسوية” التي بدأت تهبّ من واشنطن باتجاه الشرق الأوسط، وحيث قد تكون من أولى ثمارها ترتيب تفاهم مُسبق حول مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، وعلى أساس تقاسم السلطة. وإلّا فإنّ حصول الاستحقاق النيابي في موعده يبقى مُهدداً.