لعنة لبنان… تطل برأسها من جديد!
تبدو الأزمة الأخيرة أصعب من غيرها بسبب الحرب الأهلية الحاصلة في سورية المجاورة والاضطرابات السائدة في أنحاء الشرق الأوسط العربي. لا يعلم معظم الناس في المنطقة ما سيحصل بعد شهر، فكيف بالأحرى بعد سنة؟!
حين كانت إسرائيل تقصف بيروت خلال حرب عام 2006، جلستُ مع زميل لي لتناول المشروب بعد يوم طويل وشاق من الإصغاء إلى الانفجارات المتلاحقة في الضواحي الجنوبية. فسأل زميلي: “هل كان الوضع مماثلاً في مكان ما من أوروبا الوسطى خلال الثلاثينيات؟”. لا يمكن أن تكون المقارنات دقيقة مطلقاً، لكني فهمتُ ما كان يعنيه. لم يغرق لبنان والمنطقة في مستنقع العنف خلال تلك الحرب فحسب بل اجتاحته مشاعر قاتمة بأن المستقبل يخبئ أموراً أسوأ بعد. في لبنان، تُعتبر ذكريات الماضي السيئة من أقوى المؤشرات التي تنذر بالمراحل الصعبة المرتقبة، فقد خلّفت الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً خلال السبعينيات والثمانينيات جراحاً كثيرة. نجح لبنان في تخطي سلسلة من الأزمات الخطيرة منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عام 2005 (يُقال إن سورية تقف وراء الجريمة بحسب المناصرين الغاضبين)، فبعد سنة على تلك الجريمة، وقعت حرب مع إسرائيل، وفي عام 2007، اندلعت معركة مطوّلة مع المجاهدين في مخيم للاجئين الفلسطينيين، ثم حدثت حرب أهلية مختصرة في عام 2008. واللائحة تطول…
بالنسبة إلى جميع اللبنانيين الذين تحدثتُ معهم في الأيام الأخيرة، يُعتبر اغتيال اللواء وسام الحسن (أهم مسؤول أمني في البلاد) في 19 أكتوبر حدثاً خطيراً بالقدر نفسه، وقد يترافق مع عواقب أخطر بعد. تحدث فيصل كرامي عن الوضع من شقته الفخمة في طرابلس، ثاني أكبر مدينة في لبنان، ولم يحاول الاستخفاف بخطورة الأحداث (كرامي هو واحد من السياسيين الجدد في لبنان، وهو ابن وقريب رؤساء وزراء لبنانيين سابقين ويعتبره البعض زعيماً سياسياً مستقبلياً). بينما كان صوت إطلاق النار يتعالى من وقت لآخر في الخارج، قال كرامي بكل هدوء: “لقد قُتل في قلب بيروت، إنها واحدة من أخطر المراحل التي يعيشها لبنان منذ الاستقلال في الأربعينيات”. في الأحياء الفقيرة في جبل محسن وباب التبانة على بُعد أميال قليلة، يتبادل مسلحون سُنّة إطلاق النار مع العلويين اللبنانيين الذين ينتمون إلى طائفة الرئيس الأسد ومناصريه المتحمسين. أضاف كرامي: “بدأت حرب أهلية مصغرة هنا. يتعرض الناس لإطلاق النار في الشوارع”.
على الرغم من التوقعات التشاؤمية، لطالما وجد قادة لبنان خلال الأزمات الحديثة (بمساعدة خارجية في أغلب الأحيان) طريقة لإعادة إرساء نوع من الهدوء في هذا البلد الذي لم يشهد استقراراً حقيقياً على الإطلاق، لكن تبدو الأزمة الأخيرة أصعب من غيرها بسبب الحرب الأهلية الحاصلة في سورية المجاورة والاضطرابات السائدة في أنحاء الشرق الأوسط العربي، فلا يعلم معظم الناس في المنطقة ما سيحصل بعد شهر، فكيف بالحري بعد سنة؟!
تتعلق لعنة لبنان بواقع أنه لا يتحكم بمصيره، فطوال تاريخه القصير كبلد مستقل صغير وضعيف، بقي تحت رحمة الدول المجاورة الأكثر قوة. يتكل القادة اللبنانيون على التحالفات التي يقومون بها مع جهات خارجية نافذة، ما يعني أنهم يصبحون جزءاً من صراعات وحروب حلفائهم أيضاً
.
ترتكز تلك التحالفات جزئياً على التعاطف الطائفي وهي تضع لبنان في واحد من أبرز الصراعات المحورية في المنطقة، بين حلفاء المملكة العربية السعودية والغرب من جهة والمعسكر الذي يتطلع إلى إيران من جهة أخرى. من المعروف أن زعيم السنّة في لبنان، سعد الحريري، هو حليف المملكة العربية السعودية السنية التي تبذل قصارى جهدها لإسقاط نظام الأسد في سورية. في المقابل، من المعروف أن عائلة الأسد وإيران الشيعية متحالفتان مع “حزب الله” الشيعي الذي يتألف من مقاتلين وسياسيين، ويشكل هذا الحزب أبرز قوة في لبنان.
تحول الصراع الإقليمي إلى صراع طائفي في الوقت الراهن، ولا شك أن اللبنانيين هم الخبراء بهذا الوضع في الشرق الأوسط، وهم يعرفون معنى التعايش (يمكن مشاهدة فتيات بملابس البحر وأشخاص يشربون الجعة على شواطئ بيروت مقابل نساء يرتدين النقاب في ضواحي المدينة الجنوبية)، ويعرفون أيضاً ما يحصل حين تتقاتل الطوائف. لطالما وُزّعت السلطة في لبنان وفق المعطيات الطائفية. قد ينجح هذا النظام أحياناً، لكن حين ينهار، يحمل الناس أسلحتهم.
وبينما يشهد الشرق الأوسط تحولات تاريخية، تبرز النزعة الطائفية كأقوى ظاهرة في المشهد السياسي، لكنها ليست ظاهرة جديدة، إذ يعود الشرخ الحاصل بين السنّة والشيعة إلى فجر الإسلام، لكن تأجج ذلك الصراع بفعل أحداث العقد الماضي، بدءاً من الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
بالنسبة إلى المجتمعات التي تطغى فيها الاضطرابات السياسية ويعجز فيها الاقتصاد عن توفير ما يكفي من الموارد إلى الفئات الشابة، تُعتبر الطائفية شكلاً من الانقسام المرفوض، لكن قد يكون استعمال الطائفية واستغلالها طريقة فاعلة للتلاعب بالوضع، وتعبئة الناس، وترسيخ النفوذ، ونشر الفوضى، على أمل التفوق على الفئات الأخرى.
أدت النزعة القومية دوراً مماثلاً في أوروبا خلال القرن العشرين، ولا شك أن الطائفية في الشرق الأوسط تبث الانقسام وهي خطيرة بقدر ما كانت عليه القومية (ولا تزال أحياناً) بالنسبة إلى الأوروبيين، لكن لم تصبح الدول العربية وإيران مجهّزة بقدر الأوروبيين (حتى الآن!). نحن لا نتوقع حدوث كارثة، لكن ثمة مخاطر جدية تلوح في الأفق حتماً!