تحقيق شبيغل: “البتراء” مدينة مفقودة في الرمال… الكشف عن أسرار البتراء
بقيت أنقاض مدينة البتراء القديمة مدفونة حتى عام 1812، حين عثر مستكشف سويسري عليها في الأردن المعاصر. بعد قرنين، يقدم معرض جديد في مدينة بازل نحو 150 تحفة تسلط الضوء على الطريقة التي اعتمدتها هذه الثقافة الغامضة المؤلفة من تجار التوابل لإنشاء واحة فخمة بين صخور الصحراء. ماتياس شولز من «شبيغل» زار المعرض وجاء بالتالي.
وسط الحرارة الخانقة، شق ذلك الغريب طريقه عبر مدخل السيق، وهو ممر ضيق تحيط به جدران صخرية شاهقة. اخترق الرجل ذلك الممر المظلم على طول 1،2 كلم. فوقعت أنظاره فجأةً على منظر مدهش.
شكّل اكتشاف مدينة البتراء الصحراوية القديمة على يد المستكشف السويسري والمستشرق يوهان لودفيج بوركهارت في عام 1812 لحظة تاريخية عظيمة. بعيداً عن جميع المواقع المحاطة بالغبار والهواء، اكتشف بوركهارت ما وصفه «لورانس العرب» لاحقاً بـ{أجمل مكان على الأرض». اليوم، أصبحت البتراء موقعاً تراثياً عالمياً يندرج على لائحة «اليونسكو».
كان بوركهارت قد تسلل إلى المشرق بعدما ادعى أنه مسلم. فتعلّم اللغة العربية وكان يرتدي العمامة والثوب وقد اعتنق الإسلام. كانت خطته تقضي بإيجاد طريق سري نحو أرض الذهب ما وراء تمبكتو.
لكنه لم يصل يوماً إلى تلك المرحلة. فقد أخذ «الشيخ إبراهيم»، كما سمى نفسه، مجازفات كبرى للوصول إلى منحدرات البتراء الساحرة لأن سلوكه كان مشبوهاً. اعتبره مرشده «مشعوذاً يبحث عن الكنوز»، بحسب ما كتبه بوركهارت في يومياته.
رفاهية في الصحراء
بعد قرنين على اكتشاف بوركهارت مدينة محفورة في الصخور في الأردن، يعرض متحف الفن القديم في بازل أحدث الاكتشافات الأثرية عن تلك «المدينة المفقودة في الصحراء». تعمل أربع فِرَق من العلماء (من فرنسا وألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة) في ذلك الموقع راهناً.
يوضح عالم الآثار لوران غورجورا: «خلال السبعينيات، كنا ما زلنا نظن أن البتراء كانت مدينة مخصصة للكهنة والأموات فحسب». نجد هناك أكثر من 500 واجهة مدهشة محفورة في المنحدرات الصخرية وثمة مدافن خلفها. استنتج كثر أن البتراء كانت موطن بعض الشعائر الغريبة للموتى بسبب تحليل صادم طرحه عالِم الجغرافيا الإغريقي القديم سترابو الذي اعتبر أن الأنباط «كانوا ينظرون إلى الموتى كما ينظرون إلى روث الحيوانات».
فيما انشغل علماء الآثار بالكشف عن طبيعة البنى المحفورة في المنحدرات، انهارت تلك الأفكار المغلوطة. في الحقيقة، كانت البتراء سابقاً واحة تشمل حدائق خصبة وشوارع تصطف حولها المعابد والمنازل الفخمة. كذلك، كانت المنطقة تضم ممرات خاصة بالجِمال ومخازن للّبان وشجر المر والتوابل الهندية.
كان ذلك الموقع من الوادي يغطي منطقة تمتد على مساحة كيلومترين مربّعين. وجد علماء الآثار جرار النبيذ من جزيرة رودس في المتوسط، ورخاماً من تركيا، وبقايا أسماك صالحة للأكل من البحر الأحمر. نجد أيضاً ضريحاً مزيّناً برؤوس الفيلة في وسط الموقع.
يقوم ستيفان شميد، عالم آثار من جامعة هومبولت في برلين، باكتشافات مثيرة للاهتمام خلال رحلة بحثه في
الهضاب الصخرية في أم البيارة على علو 330 متراً فوق ذلك الموقع الذي شمل في الماضي مقراً لأحد الملوك. كان المكان يحتوي على أحواض استحمام ومرحاض مزوّد بآلية تنظيف وغرف قابلة للتدفئة. كان لا بد من جرّ الحطب إلى القصر عبر ممر ضيق.
كان الحكّام العرب الذين عاشوا هناك يرتدون ملابس قرمزية. وفق استنتاجات شميد، كان القصر يعكس «أقصى مظاهر الترف والسلطة».
ثقافة يشوبها الغموض
سيتم عرض حوالى 150 تحفة في مدينة بازل اعتباراً من 23 أكتوبر خلال معرض يحمل اسم «البتراء: معجزة الصحراء». إنه عرض مليء بالأسرار.
على سبيل المثال، اعتبر علماء الآثار أن الأنباط كانوا يأكلون الخنازير. لكن أين كانوا يحتفظون بالحيوانات؟ كانوا متدينين بشكل غريب، لكن لا يمكن معرفة شيء عن كهنتهم. لماذا كانت البتراء تضم أشخاصاً بارعين إلى هذا الحد في الألعاب البهلوانية؟ كان بعضهم يقدّم العروض أمام إمبراطور الصين
.
تطرح السرعة التي تحوّل فيها هؤلاء البدو إلى حَضَر معضلة أخرى. تشير التحليلات إلى انطلاق موجة إعمار مفاجئة في عام 100 ق. م. تقريباً. فبُنيت منازل ومعابد مكلفة في أنحاء الوادي.
من الواضح أن تلك الأموال نجمت عن تجارة اللبان. في عام 400 ق. م.، أنشأ الأنباط شبكة تجارية تمتد من جنوب الجزيرة العربية إلى قطاع غزة الراهن. كانت آلاف الجِمال تحمل كميات هائلة من الراتنج العطري وصولاً إلى المتوسط.
كان الأنباط يستعملون نظاماً لحراسة مسار القوافل وقد أنشأوا مناطق للاستراحة في الصحراء ووفروا الماء والطعام خلال الرحلة التي كانت تقطع مسافة 3 آلاف كلم في أنحاء الصحراء.
في خضم تلك المغامرة، كانوا يجنون أرباحاً طائلة. كان الفرس وحدهم يستعملون حوالى 27 طناً مترياً من اللبان خلال سنة، وكان العالم القديم كله يتوق إلى الاستيلاء على البخور الساحر المصنوع من مادة الراتنج الموجودة في شجر اللبان. كان الأنباط يحصلون على 50% من الأرباح.
كانوا يسيطرون أيضاً على سلع ثمينة أخرى، فكانوا يبيعون القرفة والفلفل من الهند ويتاجرون بالذهب والبلسم والقطران من البحر الميت، وكانت هذه المادة الأخيرة تُعتبر مهمة للحفاظ على جثث الموتى.
كانت البتراء على ما يبدو مستودعاً أساسياً لتلك السلع القيّمة وكانت أشبه بخزنة يمكن حمايتها بفاعلية تامة. يقتصر عرض الممر الضيق الذي يوصل إلى المدينة على أقل من ثلاثة أمتار في بعض المناطق. بالتالي، كان يكفي استعمال عدد قليل من الجنود لوقف مسار جيوش كاملة.
السيطرة على الماء في الصحراء
بُذلت جهود شاقة لإنشاء هذه الواحة الفخمة في الصحراء. لأجل تحويل الوادي الجبلي إلى مكان صالح للسكن في المقام الأول، اضطر الأنباط إلى إعاقة مدخل السيق عبر تشييد سد لأن الأمطار الشتوية الغزيرة كانت تسبب فيضانات من شأنها أن تغمر الوادي. عام 1963، توفيت مجموعة تتألف من أكثر من 20 سائحاً فرنسياً خلال أحد تلك الفيضانات المفاجئة.
عملياً، بنى الأنباط نظاماً هائلاً من السدود والصهاريج وقنوات المياه للسيطرة على إمدادات الماء. بالقرب من السد الأساسي، وجد علماء الآثار أقدم نقش في المدينة وهو يعود إلى عام 96 ق.م.
بدأ العمل الفعلي في تلك المرحلة حين راح السكان المحليون وبناؤون من الإسكندرية يحفرون في الصخور. حفر البناؤون المحاريب في الصخور وسحقوا الهضاب في أعلى المنحدرات وبنوا منازل خاصة مدهشة مع أعمدة وباحات داخلية.
في وسط المدينة، عثر عالم الآثار برنارد كولب على فيلا فيها أفاريز وفسيفساء مطليّة بالذهب. كان علو صالة الحفلات يبلغ في السابق ستة أمتار وكانت الجدران مزيّنة بخطوط وشرائط وأزهار كانت في معظمها باللون البرتقالي والأزرق. كانت تلك اللوحات الجدارية تذكّر كولب بـ{خصائص الفن الإسلامي».
يعكس خليط التأثير الغربي والعربي ديانة سكان الصحراء القديمة. كانت بعض معابدهم تحتوي على تماثيل للإلهين ديونيزوس وإيزيس. في الوقت نفسه، كانوا يعبدون «آلهة سمك» غريبة تضع الدلافين في شعرها. لكنّ الإله الأعظم دوشارا لم يكن يتّسم بأي معالم بشرية على الإطلاق. كان يشبه حجراً تكعيبياً أسود مثل الكعبة في مكة المكرمة.
كان تجّار التوابل يتمتعون أيضاً بثقافة غنية. كان لديهم مسرح فيه 5 آلاف مقعد تقريباً. لكن بما أن الأنباط لم يتركوا وراءهم أي آثار مكتوبة، لا أحد يستطيع التأكيد على نوع العروض التي كانت تُقدَّم هناك.
لكن تمكّن علماء الآثار من تحديد طريقة عمل نظام المياه في عصر الأنباط. كانت ستة أنابيب ممتدة على مسافة طويلة تجلب المياه العذبة من الجبال المحيطة على بُعد بضعة كيلومترات، وتم تركيب أنابيب فخارية داخل المدينة نفسها.
حوّل السكان مسار أحد الأنهار وتوافرت أيضاً مئات الصهاريج لتجميع مياه الأمطار. كان أكبر صهريج يسع 300 متر مكعب من الماء.
هزيمة
في هذه الواحة المتاخمة للنوافير والتماثيل الرخامية التي تمثّل شبّاناً يسكبون الماء، كانت العشائر تجتمع بشكل دوري لإقامة مراسم التأبين.
تشير الأبحاث إلى وجود مبانٍ وباحات وغرف طعام أمام المقابر الضخمة. كانت العائلات تقيم مراسم التأبين في تلك الأماكن. ليس مفاجئاً إذاً أن يشعر البعض بالحسد تجاه الأنباط. حاول الفرس والإغريق منعهم من تحقيق المكاسب وأرسل الرومان قوة إلى البتراء في عام 63 ق.م. لكن دافع الأنباط ببراعة عن حريتهم.
حين ابتكرت الإمبراطورية الرومانية خطة في عام 25 ق. م. للتقدم نحو الأرض التي تنتج اللبان، على أمل السيطرة على تجارة البخور في مصدرها، واجهت انتكاسة كبرى. وصل فيلق روماني إلى مأرب، في أرض ملكة سبأ الأسطورية وأرض اليمن المعاصرة. لكن بعد أكثر من ثمانية أشهر، تراجع الجنود الرومان المرهقون وعادوا إلى ديارهم. كان مرشدهم النبطي قد قادهم عمداً عبر طريق ملتوية وصعبة.
لم يُهزَم الأنباط أخيراً قبل مرور 130 سنة، فضمّت روما أراضيها إلى محافظة البتراء العربية حينها. بعد ذلك، شهدت البتراء انحطاطاً كبيراً. اهترأت المعابد واستعمل الرعاة المقابر كإسطبل لحيواناتهم.
حين وصل بوركهارت أخيراً، لم يجد إلا الأنقاض (كان قد تعلّم في مدينتي غوتنغن ولايبزغ الألمانيتين). لكن بالنسبة إليه، كانت تلك الأنقاض «أعظم بقايا من العصر القديم». لم يعد ذلك المغامر يوماً إلى أوروبا. فقد توفي بعد إصابته بمرض الزحار في القاهرة عن عمر يناهز 32 عاماً