يمر التحالف الإيراني – السوري الآن بمرحلة حاسمة في تاريخه الممتد لأكثر من ثلاثين عاماً، وذلك بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا بمواجهة النظام في ربيع 2011. قلبت الانتفاضة السورية الموازين الإقليمية، حتى قبل أن تستطيع إسقاط النظام، نظراً للأهمية المركزية للجغرافيا السورية في المشرق العربي. لم يعد التحالف الإيراني – السوري شأناً إقليمياً حصراً، إذ ان تصريحات بعض قادة المعارضة السورية بخصوص علاقات سوريا المستقبلية مع إيران جعلت هذه العلاقات في بؤرة الحراك السوري المحلي. يتجلى المأزق الإيراني في عدة مظاهر: أولها أن إيران دمغت ثورات «الربيع العربي» بوصفها «ثورات إسلامية» تستلهم الثورة الإيرانية، في محاولة لجني مكاسب سياسية من سقوط خصومها في تونس ومصر.
ومع امتداد «الربيع العربي» إلى سوريا فقد أصبحت إيران واقعة في أسر خطابها السياسي والأيديولوجي، لأنها السند الإقليمي والأساسي لنظام دمشق الذي يقمع شعبه. ويتمثل ثاني الأسباب المؤسسة للمأزق الإيراني في هيمنة الطابع الطائفي على التعاطي الإعلامي العربي والدولي للحراك الدائر في سوريا، وتصويره باعتباره حراكاً بين أغلبية شعبية سنية في مواجهة أقلية علوية حاكمة، وليس صراعاً بين معارضة من كل الطوائف في مواجهة نظام تتمثل فيه كل الطوائف. هنا يراد لإيران أن تدخل في مواجهة مع شرائح عربية واسعة على قاعدة طائفية، وهو ما يمكن أن يفقد إيران موقعها المعنوي وصورتها التي تود الحفاظ عليها في المنطقة. أما ثالث الأسباب الدافعة للأزمة الإيرانية في سوريا فيتمثل في أهمية سوريا الجيو-سياسية، ومحورية موقعها الجغرافي في إسناد ورفع المشروع الإقليمي الإيراني في المنطقة
.
ومع استمرار الأزمة السورية وبالتبعية المأزق الإيراني؛ فما زال لطهران أوراق هامة في أي من السيناريوهات المحتملة للأزمة، وبشكل يفوق ما هو شائع إعلامياً من خسارة إيرانية صافية في كل السيناريوهات. تستهدف الأطراف الإقليمية المناوئة للنظام السوري إيران في الواقع بدعمها لفصائل المعارضة ـ السلمية منها والمسلحة – ومنع إيران من تمديد حضورها الإقليمي، بحيث يرسم سقوط النظام السوري فصلاً جديداً من الانكفاء الإيراني عن التمدد. ويعني ذلك أن إيران تخوض مباراة صفرية مع خصومها الإقليميين على سوريا، وهي مباراة لا تسمح بتفاهمات أو تنازلات متبادلة، بل بخروج طرف رابح بكل النقاط وآخر خاسر لكل النقاط. ولما كان الوضع كذلك، يتوقع أن تستمر إيران في دعمها للنظام السوري حتى النهاية، خصوصاً في ظل عدم التوافق على مبادرات إقليمية لتسوية سياسية في سوريا، وبضمنها المبادرة المصرية.
تتباين سيناريوهات الأزمة السورية وترتهن بعوامل متداخلة منها توازنات القوى المحلية والإقليمية والدولية، وكل هذه العوامل تعقد الحسابات بما يجعل الخروج بتوقعات عن مستقبل سوريا أمراً معقداً. ومع ذلك تبدو في اللحظة الراهنة سيناريوهات أربعة متباينة للأزمة السورية:
1- بقاء النظام السوري من دون تغيير: يصعب تصور تحقيق هذا السيناريو، لأن ميكانيزمات السيطرة التي مارسها النظام السوري على معارضيه وأحزابهم وجمعياتهم الأهلية، لم تعد تؤدي دورها، والدليل على ذلك يتمثل في التصميم الواضح لقطاعات شعبية سورية على الثورة. وبالتوازي مع التصميم الشعبي، يظهر دعم إقليمي غير مسبوق، سياسياً ولوجستياً وعسكرياً، لبعض فصائل المعارضة السورية من دول الجوار الإقليمي: تركيا والسعودية وقطر. وفق هذا المقتضى لا يمكن للنظام السوري البقاء من دون تغيير، في ظل تنامي المقاطعة الدولية عليه. وإذ لا يمكن تقدير الشهور لبقاء النظام كما تفعل بعض التحليلات المتحمسة والمؤدلجة، وغني عن البيان أن هذا السيناريو سيكون الأفضل لإيران.
2- مرحلة انتقالية بمشاركة النظام: إذا لم تتبلور إرادة دولية للضغط أكثر على النظام، مع استمرار السيادة الجوية لقوات الجيش النظامي ودخولها في المعارك، وإحجام تركيا عن إدخال مواد قتالية أكثر تطوراً إلى الفصائل المتحالفة معها في سوريا (لخشيتها من دعم النظام للمسلحين الأكراد على جانبي الحدود التركية – السورية بالنوعية ذاتها من الأسلحة)، فلا يمكن توقع تغيير جذري في معادلات السلطة في سوريا. ويترتب على ذلك أن يعيد النظام السوري وفقاً لهذا السيناريو، تجديد نفسه على غرار «النموذج اليمني»، أي خروج الرئيس بضمانات سلامته وأسرته مع بقاء جوهر وأساس النظام. يبدو هذا الخيار ممكناً في حال توافق إقليمي – دولي بخصوص الأزمة السورية بين الأطراف المساندة للنظام: إيران ومن خلفها روسيا والصين، مع تركيا والسعودية وقطر ومن خلفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يتوقع ألا يغير هذا السيناريو – في حال حدوثه – من حسابات إيران في الموضوع السوري، لأن بقاء النظام سيسمح لإيران بالخروج من أزمتها بأقل الخسائر، وسيجعل النظام السوري أكثر تصميماً على مواجهة خصومه الإقليميين والدوليين.
3- تراجع النظام إلى الساحل السوري واستحكامه هناك: ما زالت الآلة العسكرية للنظام في منأى عن انشقاقات مؤلمة لقطاعات ووحدات، وبشكل يغير من الموازين الداخلية. حتى الآن اقتصرت الانشقاقات على رتب صغيرة وبعض الرتب الكبيرة في الجيش السوري، وتراجعت في الشهور الأخيرة عمليات الانشقاق بوضوح، بالتالي ظلت مخازن الأسلحة والذخيرة بيد النظام حتى الآن. وإذا افترضنا أن تركيا ستتخلى عن حذرها التقليدي في تسليح المعارضة السورية بالصواريخ المضادة للطائرات بسبب تخوفها من الأكراد، وبافتراض أن هذه الأسلحة ستسقط طائرات ومروحيات النظام وتفقده القدرة على السيطرة على مناطق واسعة خارج العاصمة، وإذا افترضنا أيضاً أن هجمات المعارضة السورية ستشتد في دمشق، بحيث لا تعود آمنة للنظام (وكلها تبقى محض افتراضات)، فمن المتوقع ساعتها أن ينتقل النظام بأسلحته التقليدية والكيماوية إلى الساحل السوري عند اللاذقية وبانياس وطوطوس. ستسمح سيطرة النظام على الساحل واستحكامه فيه ببقاء الصراع في سوريا لفترات زمنية أبعد مما يتوقع كثيرون، ولكنها ستفتح الباب أمام تداعيات تقسيمية على سوريا ولبنان المجاور لها. لا يمكن استبعاد هذا السيناريو الكارثي من قائمة الاحتمالات، خصوصاً أن الفراغ المتولد في المشرق العربي بعد احتلال العراق عام 2003، وعجز النظام السوري في العقد الأخير عن فهم التعقيد الذي تقوم عليه توازنات سوريا الجيو-سياسية، عبر تحالفها الحصري مع إيران من دون ظهير عربي ودون القدرة على موازنة القوى الإقليمية غير العربية بعضها ببعض (على العكس من تجربة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد)، قد مهد الأرضية لتخيل سيناريو كهذا. في حال حدوث ذلك، سنكون أمام حالة من تقسيم سوريا بين القوى الإقليمية غير العربية، وهي نتيجة لا تجعل إيران خاسرة تماماً مما يجري في سوريا.
4- سقوط النظام المترافق مع فوضى شاملة: بافتراض سقوط النظام السوري على وقع تصاعد العمليات العسكرية ضده، وهو أمر لا يمكن أن يتم دون إسناد دولي ومواكبة إقليمية، وبافتراض تكرار سيناريو مشابه لحالة العراق 2003 أو ليبيا 2011 (وهو أمر غير مؤكد دون صفقات دولية وإقليمية كبرى)، فمن المرجح جداً أن تدخل سوريا مرحلة من الفوضى الشاملة. حتى نتحرى الدقة الآن تتجمع عناصر محفزة للفوضى: «جيوش حرة» بقيادات مختلفة وليس «جيش حر واحدا»، كل منها يرتبط بجهات إقليمية مختلفة وبشعارات أيديولوجية متباينة، بالتوازي مع سيطرة فعلية لمقاتلين أكراد على مناطق واسعة في شمال سوريا بتأييد من النظام لكبح تركيا عن التدخل، معطوفة على ثارات طائفية في سوريا يجري العمل إعلامياً على تغذيتها، فضلاً عن وجود عشائر سورية ممتدة على أجزاء كبيرة من الخريطة السورية ستعمد إلى تسليح نفسها بكل الوسائل (مثال العراق حاضر وناجز). في هذه الحالة ستمتد الفوضى إلى دول الجوار السوري ومنها إلى إسرائيل. وفي هذه الحالة لن تكون إيران خاسرة لكل أوراقها في سوريا، لأن تشتيت انتباه إسرائيل على حدودها والتحكم بوتيرة العمليات العسكرية عليها، سيفتح الباب واسعاً أمام إيران للمشاركة في توجيه الأحداث في سوريا وما حولها.
تملك إيران في السيناريوهات الأربعة أوراقاً لا يستهان بها، بحيث يصعب تصور خروجها خاسرة وفقاً لمعادلة صفرية. تدعم إيران النظام السوري حماية لمصالحها الإقليمية، فيما تفعل تركيا العكس توخياً للأهداف ذاتها، أما السعودية وقطر فتريدان توجيه ضربة قاصمة لإيران عبر إسقاط النظام في سوريا، وهو النظام الذي دعمتاه في السنوات الأخيرة مالياً وسياسياً أملاً في جذبه بعيداً عن تحالفه مع إيران.
ولما لم تفلح هذه المحاولات نظراً لسيطرة إيران على مفاصل القرار السوري، جرى ويجري العمل على رفع سقف الانتفاضة الشعبية السورية بما يتجاوز تحقيق أهداف الانتفاضة الشعبية السورية في الحرية والديموقراطية، ليعاد صياغتها في مطابخ الجوار الإقليمي لتخرج على الشكل التالي: تحجيم الدور الإيراني في المنطقة، وتغيير المعادلات السياسية والطائفية في كامل المشرق العربي، وكل ذلك على ظهر السوريين وبدمهم. يدفع الشعب السوري ثمن حريته مرتين، الأولى في مواجهة نظام يستخدم كل ما في وسعه من دمار لقمع انتفاضته الشعبية، والثانية في مواجهة قوى إقليمية تتباكى على مظلومية الشعب السوري وتتضامن مع شعارات الديموقراطية التي لا تطبقها في بلادها بأي شكل، وتستخدم انتفاضة السوريين لتحقيق مآرب سياسية وإقليمية؛ لا تتفق بالضرورة مع المصالح العليا للشعب السوري.
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.