بريطانيا تصعد وأمريكا تنزل “قليلا”… والهدف “محور إيران” وترتيب المنطقة من جديد ـ ( الحلقة 1)
بلا شك أن الدورة الاجتماعية التي تشكل المتغيرات في العالم و من منطلق العلم والزمان هي بطيئة للغاية، ولا تتناسب مع حسابات الأنسان العادي، خصوصا وأن الأنسان عجولا، فهكذا وصفه الله في كتابه العزيز، وتحديدا في سورة الأسراء ” وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً”. وأن سر بطأ الدورة الاجتماعية لأنها متعلقة بالأحداث اليومية وصولا للأحداث التاريخية، والتي هي أساس المخاض الطويل للغاية، والذي تولد منه تشكيلات مكانية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، وقد تكون مخيفة بنظر البعض، وخصوصا بين الذين لديهم قلّة في الإدراك وقلة في الإيمان. ولهذا يُقال ” التاريخ يُعيد نفسه أو التاريخ يُستنسخ نفسه” ولكن هذا التعبير ومن منظور علمي مجرد تسطيح أو مجرد خطأ شائع ، فالحقيقة هناك ترابط بين حزمة علوم ندركها وأخرى لم ندركها هي التي تشكل الأحداث والدورات الاجتماعية العملاقة التي تشكل حياة وثقافة وتاريخ الشعوب، وكله بإرادة الله تعالى. وبسبب هذا الزمن الطويل والذي لا يتناسب مع حسابات وأمنيات الأنسان العادي يحدث اليأس والكفر ، ويحدث التخلخل في جميع منظومات الحياة، و هي حالة طبيعية لعدم أدراك الأنسان العادي لعمق النظريات الاجتماعية العلمية. وحالة طبيعية لمنطق أعادة صناعة الأشياء، فلا يمكنك أعادة صناعة الشيء إلا من خلال تفكيكه ومن ثم أعادة بنائه ليمضي سالما لعهد جديد!
ولكن هناك حقيقة قد لا يتفق عليها الجميع، ولكنها معروفة للكثير من المطلعين والمحللين والمراقبين للأحداث الاجتماعية والسياسية في العالم ،وهي أن هناك سلطة “ما ورائية” هي التي تدير العالم، وعلى الأقل من منظور سياسي. ولكن هذا الوصف وبهذه البساطة تسطيحا فجا وعلى الرغم من واقعيته في بعض الأحيان. لهذا فأن كاتب المقال يميل الى تفسير أخر يؤيد عمق ما جاء في السطرين السابقين، وفي نفس الوقت له تفسير أخر للخطأ الشائع وتفسيرنا هو:
( أن الاستغراب الذي نلمسه في منطقتنا ،وفي زوايا أخرى من العالم حول أسرار أدارة العالم والذي رسخ اعتقادا شائعا بأن هناك أدارة سرية تدير العالم، فجاء بسبب سياسات امريكا التي لم تشبه أي سياسة من سياسات الإمبراطوريات التي هيمنت على أدارة العالم أو الأجزاء الكبرى من العالم أوعلى منطقتنا العربية والإسلامية. لأن السياسة الأميركية بعيده كل البعد عن الأخلاق والقيم الروحية والدينية، وخصوصا عندما نقارنها بالإمبراطوريات السابقة، والسبب لأن أمريكا بلا تاريخ وبلا حضارة، فحاولت فرض قيمها الأميركية بالقوة وبالحروب وبالحيل التي أساسها لا أخلاقي. ولهذا أصرت على الحروب وبالضد من الدول والشعوب الحضارية، فسرقت حضارتها ودمرت منظوماتها الدينية و الأخلاقية والأجتماعية والثقافية والديموغرافية، ودعمت جماعات وأقليات مغمورة وجعلتها في المقدمة بحجة حقوق الأنسان والحرية، ولكن الدافع هو حقد حضاري على الشعوب والدول التي لديها إرث حضاري وثقافي، ولديها قيم أجتماعية ودينية. وحدث كل هذا عندما تربعت الولايات المتحدة كقائد أوحد للعالم في العقود الأخيرة. فنعتقد أن سر الاستغراب، وسر أطلاق التسميات سببه عندما استعبدت أمريكا رؤوس الأذكياء وبرضاهم وبغير رضاهم ، وذلك من خلال تسهيل الهجرة اليها، وتقديم الدعم للأذكياء الذين وصلوها وفي جميع العلوم، فصارت في أمريكا بيئة خصبة للمفكرين والمبدعين ولشياطين الاختراع، وهم من أعراق و ثقافات وأصول وألسن مختلفة. وبالتالي صارت السياسات و القرارات الأميركية ليس من صنع رئيس البلاد أو نائبه أو أدارته فقط، بل صارت القرارات والسياسات في أمريكا من صنع المئات من مراكز البحث والدراسات الاستراتيجية، التابعة للبنتاغون ووزارة الخارجية التي من خلال أبحاثها واستنتاجاتها تبنى القرارات المصيرية للبلاد وللعالم. بالإضافة إلى ترسانة الموظفين المحيطة بالرئيس والتي تلعب أيضا دورا مهما في صناعة القرار السياسي الأمريكي. هذا إلى جانب قوى الضغط “اللوبي” الذي يدفع بثقله من أجل فرض تصوراته واختياراته في اتخاذ القرار على كافة المستويات وباختلاف الاتجاهات، سواء كان القرار يهم السياسة الخارجية أو الداخلية)
لذا فمن خلال أغلاق العيون والتبصّر قليلا بهذا المشهد” تخيله قليلا من خلال عدسة فكرك وخيالك”، فسوف تتولد لديكم صورة كاملة تقود بأن من يدير أميركا هم أبناء شعوب الأرض الذي وفرت لهم أمريكا الملاذ وبيئة الإبداع. وأن ومن يضع السياسات الخارجية لأميركا وللعالم هم ناس من مختلف شعوب الأرض منحتهم أمريكا فرصة الالتقاء في ميادين مشتركة. فصاروا أجزاء مهمة من خارطة الحكومة العالمية والتي يتوقعها البعض عميقة وسرية، والمتمثلة بالولايات المتحدة، وهذا هو سر تفوق أمريكا على جميع المنافسين لأنها وعلى الرغم من استغلال عبقرية وذكاء واستشراق هؤلاء الغرباء الذين ذوبتهم في مجتمعها راحت لتخلق منهم جسورا مع شعوبهم ومناطقهم الأصلية، فصار كل واحد من هؤلاء رسولا أميركا في بلده الأصلي وفي بيئته الأصلية محملا بالقيم والأفكار وبالثقافة الأميركية. فصارت عملية الاختراق الأميركية لشعوب الأرض سهلة للغاية وفي جيع دول العالم. ثم جاءت الهيمنة الاقتصادية من خلال ” عولمة الرأسمالية” فلعبت دورا في تعزيز القوة الأميركية في العالم، ومن ذلك بزغ الغزو الفكري والثقافي من خلال الإعلام الأميركي الموجه وبجميع لغات الشعوب وبمساعدة هؤلاء المستعبدين فكريا في معاهدها ومراكزها وجامعاتها والذين أصبحوا بثقافة أميركية صرفة!.
لهذا لا نريد الغوص في الحالة الجدلية حول هذا الموضوع ،وكذلك لا نريد أن نغوص في التسميات والمصطلحات والتي أهمها ” الدولة السرية، والدولة العميقة، والحكومة الماسونية، والصهيونية العالمية ..الخ”. فعندما نغوص سوف نضيع ونتيه، لأن الجدل هنا يشبه الجدل حول موضوع ” من هي الفرقة الناجية؟ ومن هو الأصح؟ هل هو المنقذ أم المصلح أم المنتظر أم الأمام الغائب” لهذا نميل للعلم والمنطق في تفسير الأشياء مع عدم الابتعاد عن البوصلة الإلهية .
وبالعودة الى موضوع صعود الدول والقوى، وضعف أو اختفاء أخرى. فهناك حالة ثابته فالوهن يقابله بروز، وتماشيا مع الدورة الاجتماعية العملاقة التي أشرنا لها إذن هي حالة طبيعية جدا بروز دول ومنظومات اجتماعية مقابل تقهقر دول وشعوب أخرى ربما كانت في مركز قيادة العالم. فالوهن والتعب حالة طبيعية وفي جميع الميادين، لأن لكل شيء أجل مسمى، يقول سبحانه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدرًا) لا تثمر الشجرة حتى يأتي حينها، ولا تبـزغ الشمس حتى يحل ميقاتها، ولا يطل القمر حتى يحصل زمن إطلاله، ولا تضع الحامل حملها ولا تفطم ولدها إلا بأجل. الخ. ..
ولكن من الناحية السياسية هناك صراع ومكائد من أجل البقاء والصمود ،ولكن هذا يتنافى مع المنطق، لهذا ليس من السهل واليسير أن تقبل أمريكا بالموقع الثاني أو تقبل بالشراكة المتساوية في أدارة العالم، فهي مقتنعة بأن حصتها أكبر وموقعها أفضل سواء اشتركت مع القوى الأخرى أو بقيت لوحدها. ولكن المتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية وحتى الاجتماعية لا تخدم أميركا بالبقاء في مركزها الذي خطفته من القوى الأخرى، فصارت القائد الأوحد للعالم وطيلة العقود المنصرمة. لهذا فالمكابرة لا تخدم أمريكا لأنها سوف تنهكها وتزيد بخسائرها، ولكن لو سألنا سؤالا ” هل تقبل أمريكا بالأمر الواقع؟ الجواب: كلا”. فأمريكا لن تقبل سواء في عهد أوباما أو أي رئيس آخر أن تُمس قيمها القائمة على السمو والعلو على باقي قوى العالم، وهي لذلك تسعى إلى توفير جميع الوسائل المادية واللوجستية والإغرائية والترهيبية لبقاء قيمها العليا سائدة ومستمرة.
فقد تكون هناك قوى أخرى عالمية تنافس زعامة أمريكا العالمية ،لكن هذا لا يعني تفوقها عليها، والولايات المتحدة الأمريكية تعرف جيدا معنى أن هناك قوى أخرى صاعدة لهذا سوف تحاول ما أمكن أن تتعايش مع هذه الوضعية بالشكل الذي يحافظ على وضعيتها الريادية. ومن هنا قررت التنازل عن مساحات لا تُمس فيها قيمها وهي مساحات محددة وصارمة ولصالح بريطانيا بعد أن سلبت منها بعض المواقع الاستراتيجية، وأهمها اليمن وباب المندب، والعراق وثرواته ،وهذا مثالا بسيطا. ولكن الذي لم تنتبه له أمريكا هو أن اقتصادها الذي لن ولن يعود لماضيه الريادي وقوتها العسكرية هي الأخرى لن تعود لريادتها السابقة. وبسبب هذا سوف لن تغامر بحروب أخرى ولا حتى في سوريا. وهذا بحد ذاته لن تقبله شركات السلاح والأدوية والمعدات وشركات المرتزقة وطبقات رجال الأعمال الكبار في أمريكا. من هناك تتبلور أجواء أخرى داخل أمريكا ، فأما سيغادر هؤلاء ومعهم الشركات المذكورة صوب بريطانيا وأوربا والاستقراء هناك ، أو سيتم أخترق أمريكا من قبل بريطانيا وأوربا وهي في مكانها لتصبح خاضعة لإملاءات أوربا وبريطانيا، وبالتالي ستكون الرديف الجاهز لدفع بريطانيا نحو حروب قادمة وأولها في منطقة الشرق الأوسط. فنعتقد أن امريكا توافق باستغلال بريطانيا وأوربا لشركات السلاح الأميركي والدخول في السوق الأميركية، وتعتبرها حليفة صادقة لكي تحاصر الصين التي تغلغلت في داخل أميركا اقتصاديا وحتى ثقافيا!.
الى اللقاء في الحلقة الثانية
سمير عبيد
كاتب ومحلل استراتيجي