غزة أولاً وأخيراً؟
يثير العدوان الإسرائيلي الجديد على الشعب الفلسطيني في غزة علامات استفهام كثيرة حول المرامي والدوافع من ورائه، خصوصاً أن إسرائيل اختبرت تجربة قاسية في قطاع غزة قبل أربع سنوات من الآن. وفيما يبتهج الكل بقدرة الصواريخ الفلسطينية على الوصول إلى تل أبيب لأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، وينتظر المتشائمون عملية الغزو البري للقطاع، يبقى السياق العام لما يجري مفتقداً إلى حد كبير.
يبدو معلوماً من الآن أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تستطيع ترجمة تفوقها الجوي الكاسح إلى إنهاء سلطة «حماس» على قطاع غزة، أو حتى نزع سلاح الفلسطينيين في القطاع، لأن ذلك يتطلب غزو القطاع المكتظ بالسكان برياً طيلة أسابيع لتحقيق هذه الأهداف، كما أن التكلفة البشرية والمادية تبدو بوضوح خارج قدرة دولة الاحتلال الإسرائيلي على الاحتمال، وهو أمر سبق أن اختبرته في عدوان 2008/2009. لماذا إذاً تخوض إسرائيل حرباً معلومة النتيجة بالضرورة؟ وهل يكفي التفسير الرائج عربياً لأسباب العدوان بأن نتنياهو افتعل العدوان لتعزيز حظوظه الانتخابية؟ ولماذا يتردد حديث «الهدنة» وليس وقف إطلاق النار في الخطاب العربي والإقليمي منذ اليوم الأول للعدوان؟
يحاول هذا المقال استنباط السياق الإقليمي الجديد للعدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، عبر التركيز على المتغيرات الإقليمية الطارئة على المنطقة والتحالفات السياسية بين دولها لتوجيه الأحداث في مسار «هدنة» طويلة الأجل بين إسرائيل وحركة «حماس»، بدت ملامحها ترتسم في الأفق.
خيارات «حماس»
بمقتضى «الهدنة» المفترضة تربح حركة «حماس» نجاح مشروعها في «دولة غزة»، فتتجسد حينئذ القضية الفلسطينية في غزة وقيادتها في حركة «حماس». تحت هذا الشرط سينكسر الحصار إلى غير رجعة، فالمعابر إلى مصر ستكون مفتوحة لأن اتفاق «الهدنة» لا يمكن تعقله دون رعاية مصرية، ويمكن حتى التفاوض على مداخل بحرية للقطاع بشروط وضمانات معينة ستكون محلاً لـ«مفاوضات الهدنة». وعلى كل حال لم يعد الأفق السياسي للفلسطينيين متمثلاً في قيام دولة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1967، أي على الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، إذ أصبحنا منذ سيطرة «حماس» على قطاع غزة العام 2006 أمام «فلسطينين»: واحدة في الضفة تحكم منها «فتح» إدارياً دون سيطرة من أي نوع، والثانية في غزة تحت سيطرة سياسية وعسكرية من «حماس». ومنذ ذلك التاريخ انفصل المسار السياسي لشطري فلسطين العام 1967، وهما المفصولان جغرافياً أصلاً، لتزداد من وقتها القضية الفلسطينية تعقيداً على أصحابها. لقد كرّست القطيعة الجغرافية والسياسية بين جناحي فلسطين العام 1967 قوانين مكان متناقضة، وهو ما يتأسس عليه السياق الجديد للأحداث، لأن أحكام المكان تفرض شروطها في النهاية. وبالمحصلة سيعني تحرير غزة انتصاراً ما لخيارات «حماس» التي احتفظت بالسلطة وصمدت أمام الحصار والغزو طيلة ست سنوات كاملة. ومع الرعاية المصرية اللوجستية والعقائدية والإسناد الإقليمي المادي والسياسي، يبدو خيار «الهدنة» جذاباً بشدة لبعض قيادات «حماس»، خصوصاً لذلك القسم الموجود خارج القطاع حالياً.
خيارات محمد مرسي
لم يعد خيار مبارك الأثير بمحاصرة قطاع غزة والتواطؤ مع آلة القمع الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني من سكان غزة مطروحاً بالتأكيد أمام الحكم الجديد في مصر، كما أن القيادة المصرية الجديدة لا تعادي «حماس» من منظار عقائدي كما فعل مبارك، بل ان «حماس» هي الفرع الفلسطيني لتنظيم «الإخوان المسلمين» الحاكمين في مصر الآن. ويترتب على ذلك أن تعاطف «الإخوان المسلمين» في مصر وغيرها من الأقطار العربية مع «محنة غزة» هو تعاطف طبيعي، لأن إنجاح تجربة «حماس» في قطاع غزة، يعد إنجاحاً لمشروع «الإخوان» في كامل المنطقة.
يفسر ذلك اللغة التي ميزت ردة الفعل المصرية على العدوان الإسرائيلي الجديد، فهذا «عدوان على غزة» وليس على أراضي فلسطين التاريخية في حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وهذا «عدوان على حماس» وليس على الشعب الفلسطيني الذي يقتل لأنه كذلك، فالصواريخ والقذائف لا تسأل الضحايا قبل أن تمزق أشلاءهم إن كانوا منتمين لحركة «حماس» أم لا؟ ولكن بعيداً عن لغة الخطاب، يستطيع «الإخوان المسلمون» في مصر تسويق وتسويغ اتفاق «الهدنة» بين «حماس» ودولة الاحتلال، باعتباره «انتصاراً انتزعوه من إسرائيل»، «يضمن الحرية لغزة وسكانها ويخفف الحصار عن الأشقاء الفلسطينيين، ويعيد مصر مرة أخرى إلى موقع الضامن للاتفاقات». ولا يخفى أن تسويق «الهدنة» ليس صعباً في الداخل، نظراً إلى تزايد المخاوف الشعبية من فقدان السيطرة على سيناء والوعي بعدم قدرة مصر راهناً على الدخول في مواجهات عسكرية تحت وطأة وضع اقتصادي صعب وعدم جاهزية شاملة. وبالنهاية ليس صعباً أن تترجم هذه «الهدنة» إلى مكاسب خارجية عبر شراكة متميزة مع واشنطن بعد تقديم أوراق اعتماد من طراز فريد، «عراب الحل» و«عراب الهدنة»، وهو ما فشل فيه مبارك بجدارة. وعلاوة على كل ذلك، يعلم محمد مرسي أن التحالف الإقليمي المتشكل لإسناد تسوية كهذه معني بالأساس باجتراح «حل سياسي» لقطاع غزة حصراً وليس كامل القضية الفلسطينية، إذ في هذا السياق تفهم زيارة أمير قطر ورئيس وزراء تركيا إلى القاهرة أول من أمس، واجتماعهما مع محمد مرسي للبحث في تطورات الأوضاع بغزة، وكيفية إخراجها بالشكل الذي يضمن تسوية سياسية تعطي سكان غزة هامشاً أكبر من الحرية، ولكن ضمن «هدنة طويلة» بين حركة «حماس» ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
خيارات إقليمية
قد تبدو «حماس» حرة في اختيارها «الهدنة»، ولكنها بالتأكيد ليست حرة في بنية اختيارها، بمعنى آخر، يصب ما يجري في غزة بالسياق الإقليمي الأوسع، أرادت «حماس» أم لم ترد. كان واضحاً أن فشل ما يسمى «محور الاعتدال» في الوصول إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية من أهم العوامل التي دفعت الريح في شراع «محور الممانعة» الذي تقوده إيران، وبالتالي يعد اجتراح «تسوية سياسية» – «هدنة» بالتعبيرات الإخوانية – للوضع في غزة أولوية إقليمية تلتقي عندها مصالح عواصم شتى من الخليج وتركيا وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية.
في هذه الحالة ستسمح التسوية السياسية بتصميم ترتيبات إقليمية جديدة وتعويم سياسات مغايرة، ما يكسب المحور المواجه لإيران زخماً افتقده طيلة السنوات العشر الماضية. مع خروج «حماس» بمقتضى «الهدنة» من معادلة الصراع الفعلي مع إسرائيل، سيفقد «محور الممانعة» امتداده السياسي والتحالفي إلى الأراضي الفلسطينية، وهو الامتداد الذي ضعف للغاية في السنتين الأخيرتين، على الرغم من الصواريخ الإيرانية الصنع التي أطلقتها «حماس» على تل أبيب في الأيام الأخيرة. كما أن سحب حركة «حماس» من التداول السياسي ومن المواجهة مع إسرائيل سيسهل كثيراً من مهمة دمغ المحور الذي تقوده إيران بصبغة طائفية رائقة، وبالتالي تحجيم نطاق التعاطف معه من شرائح جماهيرية في العالم العربي. تقول خبرة المنطقة في العقدين الماضيين إنه كلما أرادت الولايات المتحدة الأميركية عزل إيران وتحالفاتها في المنطقة، كلما أطلقت «عملية سلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل بغض النظر عن نتيجتها النهائية. وبالمثل كلما تعنتت إسرائيل وضربت عرض الحائط بمحاولات إخراج عملية تسوية، كلما ارتفعت أسهم حركات المقاومة في المنطقة وتراجع حضور «محور الاعتدال» في مواجهة «محور الممانعة» وتردى النفوذ السياسي والمعنوي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.
مكاسب إسرائيل
تستريح دولة الاحتلال الإسرائيلي عند ترجمة عدوانها العسكري إلى إبرام «هدنة» طويلة من وطأة الكتلة السكانية لقطاع غزة، فتنفتح أمامها سيناريوهات مختلفة لقضم ما تبقى من أراض في الضفة الغربية؛ عبر تقسيم القضية الفلسطينية إلى «غزة حمساوية» و«ضفة» تحت السيطرة الديموغرافية والعسكرية. نستحضر هنا مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين للدلالة على وطأة غزة في الحسابات الإسرائيلية «أتمنى أن أفيق من نومي لأجد غزة وقد غرقت في البحر». وحتى لو ضمّت إسرائيل الضفة لاحقاً إلى أراضيها؛ فإن التوازن السكاني المائل أصلاً ناحية السكان اليهود سيميل إليهم بوضوح أكثر، لا سيما بعد استبعاد ذلك القسم من الشعب الفلسطيني الذي يسكن غزة. وربما أيضاً يمكن لقطاع غزة أو «دولة غزة» لاحقاً التعهد بعودة اللاجئين الفلسطينيين من أراضي فلسطين التاريخية العام 1948 إليه،
وبالتالي تكون إسرائيل قد حققت ربحاً صافياً من عدوانها الحالي على الشعب الفلسطيني في غزة. وعلاوة على كل ذلك فقد انغلقت منذ سنوات نافذة الفرص العسكرية أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي، فلم تعد تل أبيب تقاتل جيوشاً عربية كلاسيكية تحركها دول تنتمي إلى العالم الثالث، فتنتصر عليها بأحدث تقنيات السلاح الأميركي وبتفوق سلاح الجو وقدرته على التمهيد للحرب البرية. أصبحت تل أبيب منذ سنوات تقاتل حركات مسلحة تسليحاً خفيفاً ومتوسطاً من الناحية العسكرية، ولكن تسليحاً ثقيلاً من حيث الحمولة الأيديولوجية والعقائدية، وهو ما يدخل تعديلاً على طبيعة الصراع، فيجعل إسرائيل المتفوقة عسكرياً خاسرة سياسياً على الدوام حتى قبل أن تبدأ المعارك.
تقف القضية الفلسطينية مجدداً على مذبح الحسابات الإقليمية، التي استغلت وأطالت مآساتها طيلة العقود الماضية، خدمة لمصالحها وسياساتها. لم تعد الوحدة الوطنية الفلسطينية الآن ترفاً فكرياً أو حتى لازمة سياسية يتذكرها الخطباء لرفع العتب بين الفينة والأخرى، وإنما خصوصاً في هذه اللحظات الفارقة أصبحت الضامن والعاصم من انزلاق القضية الفلسطينية إلى مهاو جديدة؛ برعاية إقليمية ودولية وبتقاطع مصالح من نوع فريد. إذا أرادت الأطراف المختلفة – لأي محور انتمت – إثبات حسن نيتها في التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فلتبادر بالتوازي مع خطوات وقف العدوان على غزة وكسر حصارها، إلى تبني الوحدة الوطنية الفلسطينية فعلياً وعملياً لا لفظياً فقط. بدون ذلك الشرط الأساس سيكون شعار المرحلة المقبلة سائراً في طريق ذي اتجاه واحد: «غزة أولاً وأخيراً»!