العدوان على غزة: حرب لتثبيت اتفاقية كامب ديفيد
اغتالت إسرائيل القائد الفلسطيني أحمد الجعبري بعملية عسكرية خاطفة من إحدى طائرات استطلاعها، وهو ما أدى إلى اشتعال الحرب، وبحسب ما هو متوفر من معلومات فإن إسرائيل لم تفاجأ من امتلاك فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة صواريخ فجر الإيرانية بأنواعها بل هي لطالما أدعت بوصول مثل هذه الصواريخ عبر الأنفاق إلى غزة.
وفي البيان الإسرائيلي الذي أذيع بعد الهجوم الجوي المكثف في اليوم الثاني للحرب أشارت إسرائيل وعلى لسان وزير حربها إيهود براك أن القوة الجوية الإسرائيلية قامت بتدمير كل مخزون الفصائل الفلسطينية من الصواريخ بعيدة المدى من طراز فجر 5. وأيضا لم تفاجأ إسرائيل بامتلاك المقاومة الفلسطينية صواريخ كورنيت المضادة للدروع وصواريخ سام 7 المضادة للطائرات فقد صرحت وسائل الإعلام الإسرائيلية بذلك خلال العام الحالي من أن طائراتها تعرضت لإطلاق صواريخ من هذا النوع في غزة…
ولكن ما تفاجئت به إسرائيل ربما هو أنه قد تم تظليلها من قبل عملاء مزدوجين، إذ يبدو أنها ضربت أهداف لصواريخ وهمية ليس إلا…
وكذلك هي لم تكن تتوقع أن ترفع المقاومة الفلسطينية سقف التحدي بإيصال صواريخها إلى تل أبيب وهرتسيليا ويعتقد أن أكثر ما فوجئت به كان قصف القدس المحتلة وصولا إلى المستوطنات المحيطة بها وهو ما صرح به رئيس الكنيست ريفلين.
وبناء على ما تقدم يطرح هنا سؤال هل أخطئت إسرائيل في العدوان على غزة؟
الجواب على هذا السؤال ربما يحتاج إلى تدقيق وتحليل فحكومة نتنياهو كانت ترغب ومنذ عام تقريبا بشن هجوم على المفاعلات النووية الإيرانية ووصلت درجة استعداداتها قمتها بعد أن قامت بطلعات جوية فوق المتوسط ولمسافات كبيرة تعادل المسافات للوصول إلى إيران ونعلم أن الرئيس باراك أوباما هو الذي منع إسرائيل من تنفيذ ذلك، وكان هذا سبب من أسباب الجفاء بين الأخير ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
ولكن على ما يبدو لم يتخلَ الفريق الحاكم في إسرائيل عن هذا الهدف الاستراتيجي وهو منع إيران من امتلاك السلاح النووي، وكانت إسرائيل تعلم علم اليقين أن ما يشكل خطرا عليها في حال باغتت إيران بالهجوم هو رد فعل سوريا وحزب الله وحركات المقاومة في غزة…
وبفعل الأزمة السورية والتي تطورت إلى ما يشبه الحرب الأهلية الدامية ارتاحت إسرائيل من أكبر حلفاء إيران إذ ساعدتها الدول العربية الخليجية بالإضافة إلى تركيا وحركة الإخوان المسلمين السنية العالمية من الجيش العربي الوحيد المتبقي لمواجهتها من خلال إشغاله بالصراع الداخلي السوري، وبالطبع لا يمكن لنا أن نتهم هذه الدول المساندة للثوار السوريين بالتنسيق مع إسرائيل في حربها على سوريا ولكن النتيجة سواء شئنا أم أبينا تصب في هذا الاتجاه إذ أننا لا يمكن أن نتجاهل أن المايسترو الذي يشارك هذه القوى ويحركها هو الولايات المتحدة التي هي الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.
من هنا يبقى أمام إسرائيل هدفان للتدمير قبل القيام بالهجوم الاستراتيجي على إيران وهما غزة وحزب الله اللبناني وبما أن غزة هي الحلقة الأضعف في هذا المحور الذي خرجت منه حماس التي تحكم غزة شكليا وبقي فيه حركة الجهاد الإسلامي شكلا وفعلا وهي التنظيم الثاني من حيث الأهمية في قطاع غزة من حيث التسليح لذا شنت إسرائيل هجومها على غزة بالاتفاق مع الإدارة الأميركية التي على الأرجح هي من سيغطي على العدوان سياسيا وسيحول عدوان إسرائيل العسكري إلى نصر سياسي ذو بعد استراتيجي إن استطاعت ذلك وكل ذلك يعتمد على الموقف المصري.
كيف ذلك؟
نستشف مما يتداوله السياسيون الإسرائيليون من تصريحات وما تبثه وسائل الإعلام الإسرائيلية من تحليلات أن الأهداف المعلنة التي يسوقها قادة إسرائيل لشعبهم حول عدوانهم على غزة أنما يهدف إلى:
1. ترميم قوة الردع الإسرائيلية التي تأكلت بفعل الضربات التي وجهتها لها حركات المقاومة في الفترة التي تلت عدوان العام 2008-2009 على غزة.
2. ضرب البنية التحتية للمقاومة ومعرفة مستوى تسليحها وردة فعلها.
3. محاولة استكشاف ردود فعل دول ما يسمى الربيع العربي وتحديدا مصر التي تحكمها جماعة الإخوان المسلمين.
ويرى عدد من كبار المحللين السياسيين الإسرائيليين والغربيين أن الهدف الثالث هو الأهم لأن قياس ردة الفعل المصرية هذه هي ما ستحدد مستقبل الترتيبات التي يجري إعدادها للمنطقة من قبل الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين خصوصا فرنسا وبريطانيا وتروج لها وتمولها عربيا دولة قطر.
وفي هذا الإطار يرى المحلل الاستراتيجي يورام كوهين في القناة الإسرائيلية التلفزيونية الأولى: إن العالم فاجأنا فعلا، فقد كنا نتوقع بعد الربيع العربي أن تخرج ملايين الملايين بِحَثٍّ من الإخوان المسلمين في العواصم العربية ضد إسرائيل، لكن ولمصلحة إسرائيل لم يخرج سوى مائة الف متظاهر في ميدان التحرير.. والعواصم العربية لم تشهد سوى تظاهرات عادية فيما اكتفى الزعماء العرب بإرسال وفود التعزية إلى غزة.
بل أكثر من ذلك فقد شكر عدد من القادة والإعلاميين الإسرائيليين قناتي الجزيرة والعربية بشكل غير مباشر لتغطيتهما المتوازنة للعدوان الإسرائيلي على غزة، حيث أن القناتين لم تنشغلا بالحدث الفلسطيني كما كانتا تفعلان في السابق (على سبيل المثال حرب العام 2008) بل ظل تركيزهما على الوضع السوري وهذا يعني بشكل أو بأخر أن القيادتين الحاكمتين في كلا البلدين المقصود هنا السعودية وقطر تتفهمان الهدف الإسرائيلي من الحرب على غزة وهي تقليم أظافر إيران في المنطقة عبر تدمير قوة حماس والجهاد الإسلامي العسكرية، وقد عبر عن ذلك وبشكل صريح الباحث الاستراتيجي السعودي أنور عشقي في حديثه لقناة الميادين ضمن برنامج “حديث الوطن” يوم 20/11/2012 والذي برر وبكل صراحة العدوان الإسرائيلي على غزة وأدان إيران وحلفائها لتسليحهم الفصائل الفلسطينية.
ولكن وبغض النظر عن التحليل الإسرائيلي المتسرع والذي يشبه التمنيات فقد كانت ردة الفعل المصرية الرسمية في حقيقة الأمر مغايرة لما كانت عليه في زمن “الكنز الاستراتيجي” الرئيس السابق حسني مبارك وقد تمثلت ردة الفعل المصرية الأولى بإدانة العدوان بأشد العبارات وبتصريحات قوية من الرئيس محمد مرسي تؤكد وقوفه بحزم إلى جانب غزة وفلسطين وأمر بسحب السفير المصري من تل أبيب وارسل وفد تضامني إلى غزة برئاسة رئيس الوزراء هشام قنديل وعدد من مستشاريه ووزراء حكومته وفتح معبر رفح على مدار الساعة وإصدار أوامره بفتح المستشفيات المصرية في سيناء لمعالجة جرحى العدوان الإسرائيلي وكذلك دعا إلى اجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب في القاهرة وقد كان لهذا الموقف المصري الحازم تداعيات في المنطقة إذ غدت القاهرة مركزا لاستقطاب الكثير من القيادات العربية والإسلامية خصوصا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والأمير القطري حمد وبالطبع هؤلاء هرعوا إلى القاهرة للضغط على مصر وتحذيرها من أي ردود فعل غير محسوبة تجاه إسرائيل قد تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى إبعاد الأنظار عن الأحداث في سوريا والتي صُرف في سبيل إسقاط نظامها مليارات الدولارات ويبدو أن هناك طرفا (عربيا) طالب حماس والفصائل بوقف إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي كي لا يتسع الهجوم الإسرائيلي ويتم خلط الأوراق، وهو ما صرح به احد قادة حماس قبل يومين دون ذكر البلد، ومع أن مصر لم تتخذ بعد موقفًا دراماتيكياً من الأحداث في غزة إلا أنها تُدرك أبعاد الهجوم الإسرائيلي وأنه في جزء منه اختبار لإرادتها السياسية وجس نبض لقدراتها في الضغط على فصائل المقاومة في غزة والتزامها باتفاقيات السلام الموقعة معها ومن الواضح أن القاهرة رأت في العدوان الإسرائيلي على غزة كسر لهيبتها ومحاولة لتوريطها في نزاع ليست مستعدة له بعد ولكن ووفق ما وصلنا من معلومات إعلامية ومن مصادر مختلفة فإن مصر الإخوانية لا تستطيع إلا أن تنسجم مع نفسها حيث من يذبح في غزة ويقاتل فيها هم بعض من جماعة الإخوان المسلمين الذين يحكمون غزة لذلك نعتقد أنها فهمت الرسالة جيداً واستوعبتها وأفرغتها من محتواها.
فمحتواها كان يعني فيما يعني رمي غزة في حجر مصر وسلخها عن الوطن الفلسطيني كي تنفرد بشرق فلسطين (الضفة الغربية) وتتمدد فيه استيطانيا كما يحلوا لها، مصر الإخوانية على ما يبدو في طريقها إلى توجيه صفعة مؤلمة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة إن صدقت التقارير الصادرة من أوساط بعض قيادات حركة فتح وذلك من خلال جهودها لتوحيد الفصائل الفلسطينية فتح وحماس على وجه التحديد بما يعني تحقيق المصالحة السياسية الفلسطينية وهو هدف لطالما سعت إسرائيل ومن خلفها وأمامها الولايات المتحدة الأميركية إلى إفشاله.
التركيز الإسرائيلي والأميركي على الدور المصري في فرض أي هدنة جديدة إنما يهدف فيما يهدف إلى تثبيت اتفاقية كمب ديفيد وهذا ليس تحليلنا الشخصي بل هو للمحلل العسكري للقناة العاشرة الإسرائيلية حيث تحدث عن إيجابيات الاتفاق القادم الذي ترعاه مصر وكيف سيجري تجيير مطالب وشروط حماس إلى انتصارات سياسية كبيرة لإسرائيل في اطار أن رفع الحصار عن غزة سيتحول إلى انفصال غزة عن الضفة وعن إسرائيل وانجرافها غذائيا ومن ناحية الكهرباء والتموين والمصارف إلى مصر.
فهل هذا ما سيحصل بالفعل الساعات والأيام القادمة هي التي ستؤكد أو تنفي هذا الهدف الإسرائيلي..
إذاً أرادت إسرائيل إيصال رسالة لجماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر وأينما كانت أن عليهم الالتزام باتفاقية كامب ديفيد بشروطها وقواعدها والضغط على حماس وإفهامها أن دويلتها في غزة يمكن تحقيقها واستمرارها وتوسيعها ولكن بعد تجريدها بالكامل من السلاح خصوصا الثقيل منه.
وهذا باعتقادنا ما لا يمكن للحركة الإسلامية قبوله والتسليم به فقد تقبل بهدنة طويلة تمتد لسنوات وهذا ليس سرا ولكنها لن ترضخ لهذا الواقع الذي تريد إسرائيل فرضه عليها.
من هنا يأتي اختبار القيادة المصرية التي إن أدارت المعركة بحكمة وصلابة من خلال تبنيها وتمسكها بشروط فصائل المقاومة الفلسطينية والمتمثلة في:
أولا: رفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة بما في ذلك البحري.
ثانيا: وقف توغلات الجيش الإسرائيلي في مناطق قطاع غزة “خلق معازل آمنة داخل القطاع”.
ثالثا: وقف استهداف قادة الفصائل “الاغتيالات”.
رابعا: وقف الاعتداء على الصيادين وإطلاق النار عليهم.
فإنها تكون على طريق استعادة دورها الإقليمي والعربي والدولي حيث أن نجاح مصر في تحقيق هذه الشروط أي إجبار إسرائيل على التسليم لإرادة المقاومة وتحقيق المصالحة الفلسطينية وهو ما يعني أن مصر قد دخلت مرحلة جديدة من تاريخها تتناغم مع ثورة 25 يناير التي رفعت شعار “أرفع رأسك فوق أنت مصري” حيث تكون قد أعادت إلى نفسها وإلى العرب عزتهم وكرامتهم.
مع أن ذلك لن يكون كافيا لاستعادة دورها ووزنها بشكل كامل قبل التخلص من اتفاقيات كامب ديفيد التي تكبل جيشها واقتصادها ودورها السياسي ولكن هذا بحاجة لوقت وبحاجة لدعم عربي ومن أصدقاء مصر تركيا وإيران وربما روسيا والصين والبرازيل والهند إذا استطاعت نسج علاقات متوازنة معهم تبعدها تدريجيا عن تحالفها غير المنطقي مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
تستطيع مصر أن تستلهم من الصمود الفلسطيني والفشل الإسرائيلي في حرب غزة وقبل ذلك الصمود اللبناني والهزيمة الإسرائيلية عام 2006 درس مهم وهو أن إسرائيل التي كبلتها باتفاقيات مهينة ومذلة عام 1979 لم تعد هي نفسها اليوم رغم قوة تسليحها وقدرات داعميها خلف المحيط مصر بحاجة إلى قرار سيادي استراتيجي بتحرير نفسها واقتصادها وجيشها من ربقة الذل والهوان المتمثل باتفاقيات كامب ديفيد فهل تفعل حكومة مرسي حكومة الإخوان المسلمين ذلك لعلها تفعل وهي إن فعلت فإنها لا تحرر نفسها فقط بل تحرر كل أمتها.
د. علاء أبو عامر
أستاذ في العلاقات الدولية – غزة