فلسطين من دون ضفة
واضح تمام الوضوح أن القيادة الحاكمة في رام الله ليست راضية عن تطور الأمور في غزة، وتفضل عودة الهدوء، وإن بأي ثمن، وفي أقرب فرصة . تفضل أيضاً انفضاض الاهتمام الدولي والإقليمي بحرب الصواريخ الطائرة بين غزة و”إسرائيل” واحتمالات تطورها . عاشت حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله سنوات في حالة كمون ووداعة، تحسدها عليها كل النخب الحاكمة، فهي جماعة تستمتع بحواشي السلطة، لا تحكم ولا يحاسبها محاسب، كل وظيفتها أن تفصل بين شعب الضفة و”إسرائيل”، أي تلعب دور المنطقة العازلة بين عامة الشعب والسلطة الفعلية في الضفة الغربية .
يتوقع المنطق، في هذه الحالة، ألا تكون السلطة سعيدة بمن يعكّر صفو هذا الهدوء، ويهدد استمرار حالة السكينة، خصوصاً في وقت تستعد فيه السلطة للحصول من الجمعية العامة للأمم المتحدة على مكانة الكيان المراقب في الأمم المتحدة، وهي مكانة لا تختلف كثيراً عن مكانة فلسطين الحالية في المؤسسات الدولية، باستثناء ما يتحمس له بعض المفكرين الفلسطينيين وكذلك مسؤولين دوليين مثل الدكتور نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية، الذي يقول إن هذه المكانة التي تسعى إليها السلطة الفلسطينية بدعم من دول عربية ستجعل فلسطين في نظر القانون الدولي دولة محتلة وليس مجرد أراضٍ محتلة .
أمريكا مثل “إسرائيل” لا تريد، وضغطت على الاتحاد الأوروبي لتقف الدول الأوروبية ضد مساعي السلطة الفلسطينية، وهناك دول عربية غير متحمسة ربما لأن أمريكا لا تريد، أو لأنها لا ترى فائدة كبرى من وراء هذا القرار الذي قد يؤدي على العكس إلى تعطيل “مسيرة السلام” التي يأملون أن تكون نيّة الرئيس أوباما العودة إليها قبل أن يغادر واشنطن إلى غير عودة .
ولكن أمريكا لا تريد، لأنها أيضاً قلقة أكثر من أي وقت مضى . أمريكا قلقة لأن لدى حكومة أوباما تصورات شبه واضحة عن تحولات كبرى في السياسة الخارجية الأمريكية، ليس بينها ما يتعلق بتسويات الشرق الأوسط وخصوصاً الصراع العربي -”الإسرائيلي” . مازال الجهاز المؤيد ل”إسرائيل” باقياً في البيت الأبيض، ومازالت مواقف أوباما المنبثقة تجاه الصراع تثير الجدل بين حلفائه وخصومه على حد سواء، يبدو أيضاً أن أوباما ما زال في نظر أصدقائه في شيكاغو “الصهيوني المعتدل” . راجع كتاب “Beinart” بعنوان “The Crisis of Zionism” الصادر مؤخراً .
إدارة أوباما قلقة لأسباب أخرى، قلقة لأنها تعرف معرفة أكيدة أن الكونغرس يستعد لها بأسوأ معاملة وأشد عناد، خصوصاً في موضوعين هما الإصلاح المالي و”إسرائيل”، ومستعد لفرض الشلل التام على أداء الحكومة لو حاول أوباما تحقيق تقدم في أي من الموضوعين .
من ناحية أخرى، صدر عن مقربين من بعض أجهزة صنع السياسة الخارجية الأمريكية أن واشنطن لا تريد أن تكون العلاقات “الإسرائيلية”- المصرية الضحية الثانية بعد العلاقات “الإسرائيلية”- التركية . إن مصر، رغم كل ما يبدو عليها من مظاهر ضعف وفوضى، مازالت الثمرة الكبرى لعملية السلام التي بدأتها أمريكا في كامب ديفيد . وهي لا تريد أن تفقدها ولن تسمح بذلك . المؤكد أن واشنطن لا تتمنى أن ترى “إسرائيل” منعزلة أو تشعر بالوحدة، لأنها تعرف أن “إسرائيل” المنعزلة أخطر على السلام والاستقرار من أي طرف آخر في الإقليم . وهي تخشى أن يكون هذا هو هدف نتنياهو وحلفائه اليمينيين خلال الشهرين المقبلين استعداداً لانتخابات يناير المقبل .
وهي قلقة لأن الربيع العربي، وإن ظهر للكثير من الدول أنه خمد أو فقد زهوه، مازال يفرز صوراً جديدة للسياسة والسياسيين في العالم العربي، ومازالت أمريكا تحقق بسببه أو في ظله، مكاسب لا بأس بها على صعيد علاقاتها بأنظمة الحكم الجديدة، كما في مصر وتونس . تبقى المشكلة الكبرى لدى أمريكا والدافع الأساسي لقلقها، وهي أن الربيع العربي غير قابل للتنبؤ أو استخدامه لاستشراف المستقبل .
المثال على ذلك علاقة أمريكا بمصر، إذ بينما تبدو “إسرائيل” غير واثقة أو مطمئنة إلى أن الحكام الجدد في مصر يحملون لاتفاقيات السلام نوايا طيبة، تبدو أمريكا ضاغطة على “إسرائيل” لتطوير منظومة أمنها وسياساتها الخارجية لتكون أكثر تقبلاً للتعامل مع حكومات إسلامية، ليس فقط في مصر وتونس، ولكن في كل أنحاء العالم العربي ومنه قطاع غزة ووسط آسيا .
تحدث في الوقت نفسه تطورات مهمة على صعيد الطرف الفلسطيني في الصراع . لا شك أن غزة اختلفت مكانة وقوة عن غزة في أي وقت آخر، يتأكد هذا الأمر من ملاحظة أن “إسرائيل” تفرغت فصارت تخصص عداء أوفر وأعنف لغزة من مخزون عدائها للفلسطينيين عموماً وخصوصاً أهل الضفة . بل يكاد المراقب يثق في أن لا عداء يذكر يتبادله في الظاهر على الأقل حكام رام الله وحكام تل أبيب، حتى أن الطيب عبدالرحيم، أحد أعوان الرئيس الفلسطيني، تنبأ مؤخراً بأن “إسرائيل” سينتهي بها الأمر أن تعامل غزة كفلسطين وتعامل الضفة الغربية كيهودا والسامرة . كثيرون فهموا هذا التصريح على أنه اعتراف بما آلت إليه أحوال الضفة من خضوع أو إخضاع شبه كامل لإرادة “إسرائيل”، ويكاد الصراع بالنسبة لها يتدنى إلى ما تمنت “إسرائيل” أن يتدنى إليه، ويكاد الرئيس عباس يدعم هذا الرأي بتصريحه الشهير عن نيته عدم العودة إلى مسقط رأسه في مدينة صفد بالجليل إلا سائحاً . بمعنى آخر وواضح كل الوضوح تنازل الرئيس الفلسطيني عن حق فلسطيني من دون تفاوض أو مقابل . تركنا ولسنا من الفلسطينيين نطالب بحق الفلسطينيين في العودة، أو لعلها رسالة لنا جميعاً بالكف عن المطالبة بهذا الحق .
فجأة لاحظنا كيف تبدل اهتمام الحكومات الأوروبية والعربية ذات الفوائض المالية وتركيا وإيران ناحية غزة، وبعضها أعطى ظهره كلية إلى “فلسطين السلطة” كما صاروا يسمون الضفة . . لماذا هذه الاستدارة إلى ناحية غزة على حساب السلطة والضفة، وربما على حساب “فلسطين الكبرى”، الطرف الأساسي “سابقاً” في الصراع الفلسطيني -”الإسرائيلي”، وفي الصراع العربي- “الإسرائيلي” . زاد اهتمامي بمراقبة تبدل الاهتمام بقطاع غزة، منذ أن لفتت انتباهي التقارير التي تصدرها مؤسسات دولية مهتمة بالقطاع . يقول تقرير منظمة العمل الدولية إن هناك أكثر من 600 مليونير في غزة كوّنوا ثرواتهم من تجارة الأنفاق، وأن تراكماً رأسمالياً قد حدث، وأن معدل البطالة انخفض، وأن استثمارات خليجية ضخمة، انهمرت على غزة في العامين الأخيرين، وأن بعض هذه الاستثمارات وكثيراً من المعونات كانت موجهة في الأصل إلى الضفة وجرى تحويلها إلى قطاع غزة . يذكر أحد السياسيين الأتراك، أنهم وأغنياء كثيرين من العرب حولوا اهتمامهم إلى غزة عندما شعروا أن معوناتهم للضفة تدعم هيمنة الاحتلال، وتسهم في عزل شعب الضفة عن العرب وتساعده على القبول بالأمر الواقع .
هؤلاء لديهم معلومات عن تطورات الأوضاع في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية ما يبرر خوفهم على مستقبل فلسطينيي الضفة . يشرح أحد المطلعين على مجريات الأمور في الضفة تجربة “إسرائيلية أوروبية فلسطينية” تقضي بتقديم قروض لشباب الضفة، الجامعيين وغيرهم، بمبالغ في حدود من 150 إلى 200 ألف دولار، يسددها الشاب الفلسطيني على أقساط طويلة الأجل، بشروط عديدة . ما يعني أن هناك محاولات، غير ما أقدمت عليه قوى الأمن الداخلي وعدد أفرادها تجاوز 50 ألفاً وإعلام السلطة ودعايتها، لإثناء الشباب الفلسطيني عن العمل بالسياسة أو النضال ضد “إسرائيل” أو كشف الفساد في دوائر السلطة، والتعويض عنها بالالتزام بالاستقامة السياسية باعتبارها ضمانة لسداد القرض .
الآن، أفهم، هذا الغموض الغريب الذي يلف أجواء الضفة . أفهم أيضاً لماذا تمتنع ريح الربيع العربي عن الدخول إلى فلسطين، وأفهم لماذا اختلفت غزة واختلف نمط تعامل الدول العربية معها عن تعاملها مع السلطة .
يريدون أن نفقد الأمل في عودة القدس والضفة ونقنع بدولة فلسطينية في غزة . لن نفقد هذا الأمل ولن نقنع بغزة .
اقتباس
“إسرائيل” تفرغت فصارت تخصص عداء أوفر وأعنف لغزة من مخزون عدائها للفلسطينيين عموما وخصوصاً أهل الضفة . بل يكاد المراقب يثق في أن لا عداء يذكر يتبادله في الظاهر على الأقل حكام رام الله وحكام تل أبيب