سبل تجنُّب حرب أهلية في أفغانستان
صرحت «طالبان» بأنها تملك خطة تصالحية وطنية لأفغانستان. لكن حتى هذه المرحلة، لا شيء يشير إلى أنها تقوم بحوار داخلي ويمكن أن تحصد الإجماع. لم يتضح أصلاً ما إذا كانت تتمتع بالقدرة والكفاءة لإنتاج رؤية متماسكة عن البلد.
زار أعضاء من مجلس السلام الأعلى الأفغاني إسلام آباد في الفترة الأخيرة وقابلوا مجموعة واسعة من المسؤولين المدنيين والعسكريين، لمناقشة فرص التعاون بين الفريقين، بهدف التفاوض بشأن إنهاء الحرب مع “طالبان”. لم يحصل أي إنجاز لافت (كان الاجتماع جزءاً من عملية بطيئة لبناء الثقة بين إسلام آباد وكابول)، لكن لم يعد الوفد الأفغاني إلى دياره صفر اليدين. بعد إطلاق 13 معتقلاً مرتبطاً بحركة “طالبان” الأفغانية ووضعهم تحت وصاية الحكومة الأفغانية وإجراء مناقشات صريحة مع النظراء الباكستانيين، يُفترض أن تزيد ثقة مجلس السلام الأعلى الأفغاني بكلام إسلام آباد التي تدعي السعي إلى إرساء السلام في أفغانستان.
بدأ الوقت ينفد في أفغانستان… ولابد من بناء تلك الثقة بوتيرة أسرع. من المقرر أن تتم الانتخابات الرئاسية الأفغانية وتنتهي العمليات القتالية الأميركية في عام 2014. تستعد القوى الأفغانية النافذة منذ الآن لمواجهة الحالات الطارئة في أفغانستان بعد رحيل الأميركيين. يقوم إسماعيل خان، قائد من مدينة هرات الشرقية، بإعادة بناء الميليشيا الخاصة به. هو واحد من زعماء كثيرين يترأسون الميليشيات ويخزنون الأسلحة ويحشدون الرجال ويستعدون لمعركة محتملة، لكن غير حتمية، بين فصائل البلد المختلفة الإثنية والسياسية.
لاشك أن مكاسب الوجود الغربي ستتلاشى قريباً، وسرعان ما يتبين أن معظم التغييرات التي أحدثها التحالف الغربي في أفغانستان تبقى قصيرة الأمد. ستواجه أفغانستان اختباراً صعباً لتحديد مدى قدرة البلد على بناء اقتصاد لا يتكل على الجهات الخارجية بقدر ما يفعل اليوم. يبدو المشهد قاتماً. في الفترة الأخيرة، صرح شقيق الرئيس حامد كرزاي، محمود، لوكالة “أسوشيتد برس”: “أفغانستان أصبحت لعبة، وتقضي اللعبة بجمع الأموال والرحيل من هنا. ينطبق هذا الأمر على السياسيين والمتعاقدين”. لاشك أنه مطّلع على حقيقة الوضع.
رغم فساد النخب الحاكمة في أفغانستان وتلطّخ أيديها بالدم، فإنها تبقى أساسية لمنع اندلاع حرب أهلية شاملة (قد تسبب تلك الحرب الأهلية خسائر بشرية فادحة في أفغانستان، وقد تزيد جرأة المجاهدين المحليين والدوليين في المنطقة، وقد يمتد الصراع إلى باكستان الهشة).
تماسكت النخب الأفغانية بفضل اتفاقية بون، وهي الإطار الحكومي الذي أنشأته الاتفاقيات المدعومة من الأمم المتحدة بعد اعتداءات 11 سبتمبر، والذي منح أفغانستان نظام حكم مؤقتا ثم انتقاليا. في عام 2004، أجرت أفغانستان أول انتخابات رئاسية ثم نظمت انتخابات برلمانية في السنة اللاحقة أنتجت هيئة موثوقة تسعى إلى التحقق من أداء السلطة التنفيذية.
رغم شوائب إطار اتفاقية بون (فهو بالغ في السنوات الأولى في تمثيل التحالف الشمالي المعادي لقبائل البشتون و”طالبان”)، فإنه سمح بتقليص نطاق العنف وإعادة بناء دولة أفغانستان والاقتصاد والمجتمع بعد عقدين من الحرب المستمرة.
لكن بدأت إيجابيات النظام الواضحة تتراجع. ما نشهده اليوم هو انهيار إطار بون بوتيرة بطيئة. من المعروف أن كرزاي هو شخصية سياسية متعاونة. لكن ولّت الأيام التي كان يُعتبر فيها قوة جامعة وشخصية معتدلة ترمز إلى الأمل بنشوء أفغانستان بعد حقبة “طالبان”. اليوم، هو غارق في أعمال الفساد ويبدو أنه ينوي الاحتفاظ بالسلطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد انتهاء ولايته الراهنة.
في غضون ذلك، بدأت القوى النافذة غير المنتمية إلى قبائل البشتون تطرح تحديات صعبة تعوق إطار الحكم في أفغانستان. من المعروف أن الفرعين المنشقين عن الجماعة الإسلامية يعارضان كرزاي (نعني بهما “الجبهة الوطنية الأفغانية” بقيادة أحمد ضياء مسعود وأمرالله صالح، و”الائتلاف الوطني الأفغاني” بقيادة عبدالله). تدعو “الجبهة الوطنية الأفغانية” الآن إلى قيام نظام فدرالي يُضعف سلطة الرئيس.
وسط هذا الجدل القائم بين أشخاص معتدلين نسبياً حول طريقة حكم أفغانستان وهوية الحكّام، تبرز مشكلة تلبية مطالب “طالبان” أيضاً. يبقى أن نعرف كيف يمكن تحقيق هذه الأمور كلها دفعةً واحدة، بما أن “الجبهة الوطنية الأفغانية”، و”الائتلاف الوطني الأفغاني” لا يتحاوران على ما يبدو. لكن يجب أن يبدأ ذلك الحوار الآن.
كان موقف “طالبان” غامضاً في ما يخص نظام الحكم الذي تتصوره في أفغانستان. طبّقت “طالبان” خلال فترة حكمها مجموعة متنوعة من أحكام الشريعة الإسلامية بشكل سريع وصارم. تتصرف حكومات الظل التابعة لها بالطريقة نفسها اليوم. تقلّ المؤشرات على تغيّر سلوكها أو مواقفها.
تعترف “طالبان” بأنها تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. لكن ما هي التغييرات التي تطالب بها في النظام المحلي الراهن؟ رسمياً، أفغانستان هي جمهورية إسلامية وتنبثق معظم تشريعاتها من التقاليد القانونية الإسلامية. ينص دستور البلد على عدم وجوب فرض أي قانون يتعارض مع قناعات الإسلام وأحكامه. لكن يُعتبر قانون البلد خليطاً من الأحكام الإسلامية وغير الإسلامية، وتبقى الحدود بين نوعَي الأحكام غامضة عموماً.
لكن تفتقر مطالب “طالبان” التي تريد إنشاء نظام قانوني وإرساء شكل معين من الحكم في أفغانستان إلى الوضوح. هل تستطيع “طالبان” التوصل إلى نظام جمهوري في الحكم أم انها تصر على إقامة إمارة إسلامية متطرفة كتلك التي كانت قائمة خلال التسعينيات؟ هل تعتبر “طالبان” الحكم التمثيلي أمراً مباحاً أم شرعياً؟ هل يمكن إنشاء برلمان؟ ما ستكون صلاحياته؟ هل سيتمكن من إصدار التشريعات؟ هل ستكسب النساء حق التصويت أو حتى تولي مناصب في الفروع التنفيذية والتشريعية والقضائية؟ ما ستكون مكانة الملا عمر؟ هل يمكن أن يأتي “أمير المؤمنين” في المرتبة الثانية بعد رئيس البلاد المنتخب أو رئيس الوزراء؟
صرحت “طالبان” بأنها تملك خطة تصالحية وطنية لأفغانستان. لكن حتى هذه المرحلة، لا شيء يشير إلى أنها تقوم بحوار داخلي ويمكن أن تحصد الإجماع. لم يتضح أصلاً ما إذا كانت تتمتع بالقدرة والكفاءة لإنتاج رؤية متماسكة عن البلد. إذا بدأت المحادثات المباشرة مع النظراء الأفغان، فيجب أن يعرف هؤلاء “الخطوط الحمراء” التي تحددها “طالبان” ومطالبها بتغيير الدستور الراهن، حتى لو كانت غير قابلة للتنفيذ.
يبدو أن مؤتمر علماء الدين الذي اقترحه مجلس السلام الأعلى الأفغاني والحكومة الباكستانية في تصريحهما المشترك سيكون منتدى مهماً للتطرق إلى هذه المسائل بشكل غير مباشر. يجب ألا تحصل “طالبان” أو علماء الدين المشاركون على حق النقض بشأن مستقبل أفغانستان. لكن سيوفر هذا المنتدى (إذا حصل) فرصة للضغط على “طالبان” ومنح قيادتها الغطاء اللازم من أجل تقديم التنازلات الضرورية حول الحكم التمثيلي وحقوق المرأة.
لا يمكن أن تحدد “طالبان” وحدها مستقبل أفغانستان. لكن كجزء من التسوية السياسية (وهي عامل حاسم لضمان السلام والاستقرار في البلد والمنطقة)، لاشك أن “طالبان” ستجد طريقة معينة لتحديد شكل الحكم في أفغانستان. من أجل إضعاف نفوذ “طالبان”، لابد من عقد محادثات سلام داخلية في أفغانستان، مع التركيز على القوى التقدمية نسبياً داخل البلد، بما في ذلك النساء. كذلك، يحب أن تتوحد النساء الأفغانيات (سواء أصبحن جزءاً من المجتمع المدني أو البرلمان) على شكل كتلة واحدة، وأن يضغطن للحصول على حقوقهن الأساسية. تواجه أفغانستان تحديات كثيرة، أبرزها منع اندلاع حرب أهلية من خلال إعداد إطار حكم معدل على أن يشمل “طالبان”، لكن من دون التضحية بحقوق الأفغان الأساسية،
ولاسيما النساء الأفغانيات. يصعب التفاؤل بشأن احتمالات التوصل إلى تسوية يتم التفاوض عليها مع “طالبان”. لاشك أن مشاعر التفاؤل ستتلاشى في الأشهر المقبلة إذا لم يحصل أي تقدم مع اقتراب عام 2014