مآزق أميركا في الشرق الأوسط
1-
لم يكن المستنقع الأفغاني سبباً لانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 كما تقول الأدبيات السياسية للجماعات الدينية الأصولية.
فهل كان وضع أميركا في العراق “المستنقع”، كما كان حال الاتحاد السوفياتي في أفغانستان؟
وهل أدى “المستنقع العراقي” إلى إفلاس مالي أميركي، وانهيار الامبراطورية الأميركية كما تقول الأدبيات السياسية الأصولية القومية منها والدينية؟
-2-
إن “المستنقع الأفغاني” ومن قبله “المستنقع الفيتنامي” الذي غرق فيه نصف مليون جندي أميركي، وقُتل خمسون ألفاً منهم، وجُرح أكثر من 250 ألف جندي، كانا “مستنقعين حقيقيين” للسوفيات وللأميركيين للأسباب التالية:
1- إن المقاومة في كلا المستنقعين، كانت شاملة من السكان كافة، وليس من فئة واحدة معينة ضد الاحتلال الأجنبي.
2- إن المقاومة في كلا المستنقعين، كان لها مطلب رئيسي، وهو جلاء القوات الأجنبية والاستقلال.
3- إن المقاومة في كلا المستنقعين، كانت مدعومة من الخارج بقوى عظمى، ذات مال غزير، وسلاح وفير.
4- إن المقاومة في كلا المستنقعين، كانت مدعومة بالرأي العام العالمي والشرعية الدولية، بما فيهما الرأي العام الأميركي والرأي العام السوفياتي، اللذان كانا سبباً رئيسياً للخروج والخلاص من هذين المستنقعين.
5- إن المقاومة في كلا المستنقعين كانت تلقى تعاطفاً خاصاً من فئات المجتمع الإسلامي وشعوب العالم الثالث المستضعفة كافة.
6- إن المقاومة في كلا المستنقعين، لم تكن ضد أهداف وطنية، كرجال الشرطة، والجيش الوطني، وطلبة المدارس، والجامعات، والأساتذة، والمرافق العامة، من ماء، وكهرباء، ونفط… إلخ. ولم تستهدف الأطفال، والنساء، والأبرياء، من المواطنين.
7- لقد خلّف هذان المستنقعان حرباً باردة طويلة بين القوتين العظميين، وأديا إلى سباق التسلح الدولي، وسقوط إحدى القوتين العظميين، وقيام معادلات، وقيم، ونُظم سياسية جديدة، في العالم.
8- وأخيراً، لم تغرق في هذين المستنقعين “قوات تحالف”، وإنما غرقت فيه دولتان، كلٌّ على حدة. رغم أن هذا “التحالف” في “المستنقع العراقي” كان رمزياً وهشاً، أكثر مما كان حقيقياً، ودولياً شاملاً.
-3-
ومن هنا نقول إن حدود “المستنقع العراقي” كانت ضيقة ومحصورة – إلا إذا كانت أميركا قد سعت إلى توسيع دائرة هذا المستنقع، باستهداف ما يُطلق عليه “ضفتا الإرهاب” (سورية وإيران) – مهما طال به الزمن. ولن يطول كما كان عليه الحال في “المستنقع الفيتنامي”، الذي مكثت فيه أميركا 11 سنة (1964- 1975) للأسباب التي ذكرناها أعلاه، حيث كانت فيتنام مجالاً وأرض معركة لصراع القوتين العظميين في العالم، كما كان لبنان (1975- 1989) مجالاً وأرض معركة لصراع القوتين العربيتين الرئيسيتين: حزب البعث السوري (القيادة القطرية)، مع بعث العراق (القيادة القومية)، وأطراف أخرى تتوزع بين اليمين واليسار.
-4-
ومن هنا، فإن بقاء القوات الأميركية في العراق لم يطل. وانتهى عام 2011، وقبل الموعد المحدد. وخاب ظن الآخرين في بقاء أميركا في “المستنقع العراقي”. وخرجت الولايات المتحدة من العراق، رغم شعور كثير من العراقيين أنهم بحاجة إلى قوة ضاربة لحماية السلم الأهلي، والأمن الوطني. ولكن الرأي العام الأميركي كان أقوى من رغبة العراقيين. واستجابت الإدارة الأميركية للرأي العام الأميركي، وخرجت مبكراً من العراق، عندما وجدت أن الرأي العام حيال وجود القوات الأميركية في العراق، قد انقسم إلى قسمين:
الأول، يمثل عامة الناس البسطاء، ورجل الشارع، والطبقة المتوسطة، واليسار الأميركي، والشبيبة الأميركية، والمبغضين للإدارة الأميركية الحالية، وعائلات الجنود الأميركيين بالعراق، ومجموعة من الصحافيين. وكان هذا الفريق يقول: إن التكلفة الأميركية لغزو العراق حتى الآن في العراق خمسمئة مليار دولار، قابلة للزيادة، وأكثر من 4000 جندي، خسارة لا مبرر لها. وعلى أميركا أن تسحب قواتها فوراً من العراق تجنباً لمزيد من الخسارة اللامجدية. فالشعب العراقي لن يهب أميركا البترول مجاناً غداً، وأميركا لن تسرق البترول العراقي. وقد سبق أن وُهِبَ البترول العراقي لعملاء النظام السابق فيما عُرف بـ”كوبونات النفط”. وقد سبق لأميركا تحرير الكويت، من عدوان صدام الغاشم، ولم تحصل على برميل بترول واحد هبةً أو سرقةً. وكل ما حققته أميركا استمرار تدفق البترول بأمان وبأسعار السوق. وأضاف هؤلاء جميعاً قائلين: إن الشعب العراقي- بما أظهر من عدم تحمل مسؤوليته تجاه وطنه- لا يستحق منّا كل هذه التضحيات. ولقد أخطأنا عندما طبقنا “النموذج الياباني” على العراق. ولم نأخذ بالاعتبار اختلاف الثقافتين، واختلاف التراثين. فاليابان دولة تدين بالديانة البوذية السلمية المتسامحة، التي انتجت “الغاندية الهندية”، وسياسة الكفاح السلمي (ساتيا جراهاSatyagraha)، وهزمت أعتى الامبراطوريات الاستعمارية الحديثة. ومن هنا قبلت اليابان بالاستسلام 1945، وبفرض الدستور الأميركي، والحماية الأميركية، وتفكيك المجتمع العسكري، ولم تنتقم بـ”الكاميكاز” كما فعلت في “بيرل هاربر” 1941، وكما فعل السلفيون العرب في كارثة برجي التجارة في نيويورك 2001.
وقال هذا الفريق أيضاً:
إن الشعب العراقي شعب محظوظ إلى أبعد الحدود، عندما وجد إدارة غبية- كإدارة بوش- لا خبرة لها في السياسة الخارجية، لكي تنجرَّ وراء المعارضة العراقية، وتقوم بهذه الحملة العسكرية، من أجل تحريره من ديكتاتورية عاتية، كانت ستحكم العراق مئات السنين دون رادع أو وازع، بحجة دعمه للإرهاب “القاعدي”، وامتلاك أسلحة دمار شامل وهمية.
فما هي القوة البديلة في العالم التي تستطيع دفع كل هذه الأموال، وتقديم كل هذه الضحايا، من أجل أن يتحرر شعب من طغاته وجلاديه؟
-5-
أما الفريق الثاني، فكان يمثل النخبة الأميركية في المعاهد السياسية البحثية المتخصصة، والمنتشرة في الجامعات الأميركية، ومراكز صناعة القرار، وما يُطلق عليهم “المحافظون الجُدد Neo-cons”. ويؤمن هؤلاء بالدور العالمي والكوني، المُلقى على كاهل أميركا “من الأرض والسماء”، لخلاص البشرية من شرورها. وأن أميركا “ذات رسالة إنسانية وسياسية عظيمة”، وهي نشر الديمقراطية في العالم، بأي حجة من الحجج، وبأي ذريعة كاذبة أو صادقة، وبأي ثمن من الأثمان. وأن قَدَرَ أميركا أن تكون “رسول الحرية” في “النظام العالمي الجديد”. وأن “الغاية النبيلة تُبرر الوسيلة الرذيلة”.
وأضاف هذا الفريق قائلاً:
يكفي المواطن الأميركي فخراً أنه أصبح محرر الشعوب من العبودية. ففي العالم العربي- الإسلامي، حُررت الكويت من قوات الغزو الديكتاتوري، وحُررت البوسنة والهرسك من مجرمي الصرب، وحُررت أفغانستان من حُكم القرون الوسطى، وحُرر العراق من النظام الطاغي.
فهل هذه حقاً هي الأهداف الأميركية من خروج أميركا بعسكرها وأساطيلها إلى الشرق الأوسط، وهي التي لا تخرج إلا في القارعات، والكوارث الكونية، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، التي عادت عليها بمزيد من الرخاء الاقتصادي، والهيمنة السياسية؟
فكيف كان حصاد التوغّل الأميركي في الشرق الأوسط؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المقال القادم إن شاء الله.