الريادة الأمريكية إلى الهاوية
لو لم تكن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 لكان على صناع الاستراتيجية الأمريكية ابتكار سيناريو مشابه لها… تحليل ردده خبراء لا يؤمنون بنظرية المؤامرة، ويؤكدون أن واشنطن استفادت من الهجوم من أجل فرض هيمنتها على العالم، وتحريك أساطيلها وجنودها إلى ما واراء المحيطات بحثا عن الإرهاب العدو “المبهم” الذي لا يمكن إعلان النصر عليه.
كان المقصود من خلق العدو الافتراضي الجديد استمرار الريادة الأمريكية على العالم لعقود. كما ان فائض القوة الأمريكية والتقنيات العسكرية المتطورة، وتعاطف العالم تشكل كلها عوامل مكنت الجيش الأمريكي من غزو أفغانستان بأقل الخسائر ودون معارضة كبيرة من الأطراف الدولية. النصر الذي أطرب بوش الإبن وبالتعاون مع حليفه “الأصغر” في لندن توني بلير شجعهما على السير في تلفيق التهم لنظام الرئيس الراحل صدام حسين واستخدامها كذريعة لغزو العراق واحتلاله في العام 2004. لكن حسابات الحقل لا تنطبق في أغلب الأحيان على حسابات البيدر.
فما بعد النصر الخاطف والسريع كان الأمريكيون على موعد مع الغوص في مستنقعين استنزفا قوة اقتصادهم الوطني، وبعد الفوائض المالية الكبيرة في عصر بيل كلينتون بات العجز الكبير ملازما للموازنة.وبدأ العقد الأول من القرن الحالي أمريكيا لكنه لم ينته كذلك. وفي العام 2007 دخلت الولايات المتحدة في أزمة مالية هي 11 سبتمبر الاقتصادية مع انهيار مصرف “ليمان بروذرز”، وتفاقم أزمة الديون وما تلاها من انهيار أسعار المساكن وتحولها الى أزمة اقتصادية أدت إلى انكماش الاقتصاد. ومع تفاعلات الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على أمريكا والعالم اختتم بوش ولايته الثانية بموازنات عسكرية هي الأضخم، وأداء اقتصادي هو الأسوأ، وكره متعاظم للولايات المتحدة في العالم، وترك مهمات جسام يصعب على أي خليفة له حلها في ولايتين أو حتى أكثر.
الاقتصاد والمخاوف من الهاوية المالية…
في أثناء الحملة الانتخابية الحالية بدا واضحا أن العالم منحاز لباراك أوباما رغم أنه لم يفِّ بكل تعهداته. وتحسنت صورة الولايات المتحدة عالميا مع الانسحاب من العراق، والاعداد للانسحاب من أفغانستان، واللغة التصالحية مع القوى الصاعدة في العالم، واخراج مصطلحات الحرب الباردة من قاموس المتحدثين الرسميين. لكن الواضح أن الأوضاع المتردية للاقتصاد تبرز كأحد أهم العوامل التي تهدد الريادة الأمريكية على الصعيد العالمي، فقد أفلحت السياسات الاقتصادية لأوباما في عدم الوقوع في “ركود مزدوج” وشقت طريقها بصعوبة نحو التعافي الاقتصادي، ووصل الاقتصاد الأمريكي في العام 2011 إلى حجمه في عام 2007 أي السنة التي سبقت الأزمة الاقتصادية الحالية. ويسجل أن الأمريكيين أعادوا انتخاب أوباما كأول رئيس منذ العام 1930 يعاد انتخابه في وجود معدلات بطالة تتجاوز7 في المائة.
ورغم تحقيق معدلات نمو بنحو (2.2) في المئة، وتراجع البطالة إلى (7.8) في المئة، وانتعاش أسواق المال، وارتفاع اسعار المساكن إلا أن الولايات المتحدة تواجه معضلتين رئيسيتين هما: زيادة أعداد الفقراء من 27 مليون معتمد على المساعدات الغذائية قبل 5 أعوام إلى نحو 47 مليونا في الوقت الحالي. كما يعاني الاقتصاد الأمريكي من ارتفاع عجز الموازنة وزيادة الدين العام الذي تجاوز (103) في المائة في الأشهر الأخيرة مما يهدد بخفض تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية الإئتماني مرة أخرى في حال عدم توصل الديمقراطيين والجمهوريين إلى اتفاق بخفض الدين العام بنحو الربع إلى 12 تريليون دولار في السنوات المقبلة من نحو 16 ترليونا حاليا.
ويجد أوباما نفسه مضطرا إلى خوض مفاوضات شاقة مع الجمهوريين المسيطرين على أغلبية مجلس النواب في شأن قضايا إصلاح الضمان الاجتماعي وإنهاء الإعفاءات الضريبية، إلى جانب قضايا الهجرة. ويبدو أن أخطر ما يمكن أن يواجهه الرئيس المنتخب ما يعرف باسم “الهاوية المالية” وتتمثل في زيادة الضرائب وتخفيضات تلقائية في الإنفاق تهدد بانزلاق البلاد الى ركود جديد، وعلى أوباما الانخراط في بحث جدي مع الجمهوريين لتجنب تكرار معركة سقف الدين عام 2011 التي دفعت البلاد الى شفيرالتخلف عن سداد الديون، مما أدى إلى انخفاض ثقة المستهلكين، ودفع وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض توقعاتها لدين الولايات المتحدة الى مستوى تاريخي، وتعديل تصنيفها.
وبعد ثلاثة أيام من إعادة انتخابه شدد باراك أوباما على ضرورة ان “يدفع الامريكيون الاكثر ثراء ضرائب اعلى بقليل”، ودعا إلى أفعال ملموسة للتوصل إلى اتفاق حول عجز الموازنة والكف عن أي “مماحكات سياسية”. وأوضح أوباما أنه من الضروري “الجمع بين الاقتطاعات وبين (زيادة) العائدات ما يعني انه ينبغي على الامريكيين الاكثر ثراء ان يدفعوا ضرائب اكثر قليلا”. وكرر أوباما طروحاته أثناء الحملة الانتخابية بأنه سوف يرفض “مطالبة الطلاب والطبقة المتوسطة بتسديد العجز كله في حين ان اناسا مثلي(أوباما) يكسبون اكثر من 250 الف دولار (سنويا) لا يطلب منهم دفع اي زيادة ولو بمليم واحد، في الضريبة. هذا شيء لن افعله”.
انعكاسات “الهاوية المالية” الداخلية والعالمية…
شهر ونيف هو ما تبقى أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي لتجنب انزلاق أكبر اقتصاد في العالم إلى “الهاوية المالية”، وفي حال عدم توصل المشرعين الأمريكيين إلى حل وسط من أجل خفض العجز في الموازنة فإن برنامج زيادات ضريبية واقتطاعات في النفقات العامة سيدخل يدخل حيز التنفيذ تلقائيا اعتبارا من مطلع العام 2013. وتخفض خطة التقشف المالي التلقائية العجز إلى أربعة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل، مقابل 7.6 في المائة في العام الحالي، لكنها تدخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة الانكماش، وترفع معدلات البطالة.
إنها حالة سوف تؤدي إلى خفض نفقات الدولة الفدرالية للسنة المالية 2013 تلقائيا بمقدار 109 مليارات دولار، وستمس الزيادات الضريبية جميع شرائح المواطنين بنحو 20 في المائة مما سيتسبب بنفقات اضافية بقيمة ألفي دولار في السنة لعائلات الطبقات الوسطى، ومن المؤكد أن ارتفاع الضرائب بهذه النسبة الكبيرة سوف ينعكس على استهلاك الأمريكيين الذي يشكل أهم قاطرة لنمو الاقتصاد في الولايات المتحدة، ويبذر تراجع الاستهلاك وتقليص النفقات العامة بانهيار الطلب الداخلي، ما قد ينعكس على الاقتصاد العالمي. ويحذر مجلس الاحتياط الفيدرالي بأنه لا يملك الأدوات المالية والنقدية لتفادي الانكماش خصوصا أن البلاد لم تتعاف بعد كليا من الانكماش السابق الذي استمر من ديسمبر/ كانون الأول 2007 حتى يونيو/ حزيران 2009. وتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن تؤدي “الهاوية المالية” إلى تراجع الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي في العام المقبل بنحو نصف في المائة، وزيادة معدل البطالة في العام ذاته إلى (9.1) في المائة مقارنة مع (7.9) في المائة حالياً. وتذهب بعض السيناريوات المتشائمة إلى أن العواقب سوف تكون كارثية إذ يتوقع خبراء اقتصاديون انهيارا ماليا، وافلاس مئات المصارف، وتعثر تسديد القروض العقارية، وأخطرها ارتفاع البطالة إلى أكثر من 15 في المئة. ويحذر محللون اقتصاديون من أن احتمال حصول تقليص حاد في الميزانية الفيدرالية في الولايات المتحدة لن يكون سوى “حادث بين مجموعة من الاحداث الاخرى” التي قد تنعكس على صعيد العالم، ويحذرون من تزامن “الهاوية المالية” مع الأوضاع الصعبة في أوروبا، والتباطؤ في نمو الاقتصاد الصيني، وارتفاع أسعار النفط بسبب الأوضاع السياسية غير المستقرة في الشرق الأوسط. ويتوقع محللو مكتب “غلوبال اينسايت” حصول “السيناريو” الأسوأ” في حال تجمعت كل هذه العوامل وهو تراجع الناتج المحلي الأمريكي بنحو (1.7) في المئة في العام المقبل.
الحلول “الترقيعية” تؤجل السقوط في “الهاوية”
تظهر مؤشرات حول جدية المشرعين الأمريكيين في التوصل إلى حل وسط بشأن تخفيف عجز الموازنة، وانهاء الملاذات الضريبية. خطوة سوف تؤدي إلى تأجيل الانزلاق إلى “الهاوية المالية” لمدة عام، وفي نهاية 2013 سوف يجد المشرعون أنفسهم أمام صفقة جديدة تدخلهم إلى أزمة مالية أخرى. ويبدو واضحا أن الاقتصاد الأمريكي فقد ريادته العالمية مع تحول مركز الانتاج إلى الشرق، وأنه في أمس الحاجة إلى إصلاح جذري نظرا للمشكلات الهيكلية التي يعاني منها مع تراجع الانتاج، وزيادة الاستهلاك. ومع تفاقم الأزمة المالية، واحتمال خفض التصنيف الإئتماني للولايات المتحدة يصبح الاستمرار بنظرية الانفاق لحفز النمو ضربا من الخيال، في وقت تقدر مصادر أن أمريكا تحتاج إلى 2200 مليار دولار من أجل تطوير بنيتها التحتية المتقادمة في مجال الكهرباء وشبكات الصرف الصحي والطرق العامة والمطارات. ولا يتحمس كثير من المشرعين الأمريكيين لزيادة الاستثمار في البنية التحتية، ولا لفرض ضرائب على الشريحة الأكثر ثراء في الولايات المتحدة رغم أن تقرير التنافسية الخاص بالمنتدى الاقتصادي العالمي صنف ترتيب البنية التحتية الأمريكية دون المرتبة 20 عموما، ودون المركز 30 في جودة خدمات النقل والكهرباء. وحتى في مجال مثل الانترنيت الذي ابتكرته أمريكا فإن منظمة التعاون والتنمية للدول الأكثر ثراء، أشارت في تقرير صدر أخيرا إلى أن معدل سرعة شبكة الإنترنت الأمريكية يأتي في المركز العاشر مقارنة بمعدله في دول مثل كوريا الجنوبية وألمانيا.
في انتظار الهاوية
أجبر تماسك النظام المالي والعولمة الاقتصادية مختلف بلدان العالم للوقوف إلى جوار الولايات المتحدة في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، ولكن الأوضاع المتردية في مختلف الاقتصادات العالمية الرئيسية تقف اليوم عائقا أمام مزيد من الدعم للاقتصاد الأمريكي ما يعني أنه في طريقه إلى فقدان الريادة العالمية حتى لو ظل متحكما بأسواق المال العالمية، ويمتلك أهم عملة احتياط أخذ سحر لونها الأخضر بالأفول، مما يمهد لتوازنات اقتصادية وسياسية جديدة في العالم.. فآخر التوقعات تؤكد أن حجم الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز حجم اقتصاد منطقة اليورو، وأنه سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأربع المقبلة.
وبعد عقد استخدمت فيه الولايات المتحدة القوة المنفلتة من أي عقال، بدأت بجني ثمار حروب كونية خلفت الدمار والويلات، وتراجع ثقلها السياسي في العالم، وهي في طريقها إلى هاوية مالية تنهي هيمنتها الاقتصادية وقد تكون مقدمة لأفول شمس الامبراطورية الأمريكية سياسيا واقتصاديا.