للمرأة ضلعها المقدس وألف علامة تعجب في عيون الذكور!
لا نأتي بجديد عندما نتحدث عن المساحات الكبيرة التي يتحرك على أرضيتها وفي إطارها الذكور من بني آدم في بعض مجالات الحياة، وانحسارها عن المرأة، وهي حقيقة ثابتة فرضتها طبيعة المسؤوليات الواقعة على كتف الرجل ومتن المرأة، فضلا عن الطبيعة الفسيولوجية لكل من الذكر والأنثى التي لها المدخلية الكبرى في كل ما يتبع من حركتي الرجل والمرأة في مضمار الحياة اليومية، على أن الإختلاف الفسيولوجي ليس نقصاً في أحدهما يقابل كمالاً في الآخر، وإنما هي عملية بناء إنسجامية فطرية لخلق أسرة سليمة قوامها الآباء والأبناء والأحفاد، ثم إن تحمل أحدهما مسؤولية رفعت عن الآخر لا يعني انتقاصاً من الآخر ولا حفاوة في الأول، بل إن المسؤولية أمر ثقيل، ينأى عن حملها معظم بني البشر ويجد له أو لها الأعذار لتجاوزها، فإذا ما رفعت عن الرجل أو المرأةـ فإنما من باب اللطف التكويني حيث أودع الله سبحانه وتعالى في الأرض وما فيها وما يدب عليها قوانينه، فكانت الفطرة هي مآل الأمور كلها، ومن يعمل خلافها فإنما يكون متعارضا مع الفطرة وخلاف العدل الإلهي والتكوين البشري.
ولعلّ أبرز ميادين الحياة التي استقل بها الرجل دون المرأة هو ميدان الجهاد العسكري، فكان التكوين الفطري قد حصر القتال في الذكر القادر جسديا ونفسيا تحمل ويلات الحرب وأعراضها، فكان شعار الحرب البدئية أو الدفاعية حماية الدين والمال والعرض، إذ تدخل الأنثى كضلع أساس في مثلث المقدسات التي هي محل ابتلاء الرجل بخاصة عندما يشتد وطيس الحرب ويرتفع أوارها ولا يبقى لسهم الصبر من منزع، بل ويُعاب الرجل إذا ما فرّط في أضلاع المثلث كلها أو أحدها، ومن الناحية العرفية والإجتماعية يعتبر ضلع المرأة هو القاعدة الأهم حيث يهون عنده أمر الضلعين، فيمكن في ضلع الدين أن يمارس الرجل التقية حالما تخمد جمرة الحرب أو تدخل حربة الأذى في غمدها (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) سورة النحل: 106، وفي ضلع المال يهون الفقر والحرمان في قبال سلامة الدين والأعراض، إلا الأعراض فهي من المقدسات التي لا محيص عنها لا تقية ولا دعة، ويظل ضلع المرأة هو الضلع الأضعف والأقوى في مثلث المقدسات، ولا مجال للأعذار عند التقصير في الدفاع عنه، ولا محيد عن حمل أعبائه، ولهذا يعتبر حصر الممارسة المسلحة بالرجل ورفعها عن المرأة كواحدة من اللطف الإلهي للحفاظ على مكانة المرأة واحترام كينونتها وإلزام الذكر بتحمل واجب الدفاع عنه في السلم والحرب، وهذا المفهوم أورده الشاعر عمر بن أبي ربيعة (23- 93هـ) (وقيل أن بيت الشاهد لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت الخزرجي 8- ن102هـ) هاجيا مصعب بن الزبير الأسدي (26- 72هـ) عندما أقدم سنة 67 هـ على قتل البيضاء (عمرة) بنت النعمان بن البشير الأنصارية زوجة المختار بن عبيد الله الثقفي (1- 67هـ)، (من بحر الخفيف):
إنَّ مِنْ أعجبِ العجائب عندي … قَتْلُ حسناءَ حُرَّةٍ عُطْبولِ
قُتِلَتْ هكذا على غيرِ ذَنْبٍ … إنَّ للهِ دَرُّها مِنْ قَتيلِ
كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا … وعلى المحصناتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وهذا المعنى نلحظه في قصة عبد الله بن عمير الكلبي المستشهد بكربلاء المقدسة سنة 61هـ، مع زوجته أم وهب قمر بنت عبد النمرية (ن20- 61هـ) كما ينقلها الطبري محمد بن جرير (224- 310هـ) في تاريخه: 5/430، فعندما رجع من أول جولة في معركة الطف بعد أن قتل اثنين من الجيش الأموي، وهو يرتجز ويقول، (من بحر الرجز):
إنْ تُنْكِروني فأنا ابْنُ كَلْبِ … حَسْبي بِبَيْتي فِي عَليم حَسْبي
إنِّي امْرُؤٌ ذو مِرَّة وَعَصْبِ … وَلَسْتُ بالْخَوَّارِ عِنْدَ النَّكْبِ
إنِّي زعيمٌ لَكِ أُمُّ وَهْبِ … بالطَّعْنِ فيهمْ مُقْدِمًا والضَّرْبِ
أخذت أم وهب امرأته عمودا، ثم أقبلت نحو زوجها تقول: فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد، فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، فقالت إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين، فقال: “جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال” فانصرفت إليهن.
ولا يخفى وجود استثناءات في مسألة مشاركة المرأة في النضال المسلح، ولكن القاعدة العامة أن الجهاد المسلح من شأن الرجل، ومع هذا فإن أسماءً نسوية لمعن في سجل الشهيدات، وهذا ما يحاول المحقق محمد صادق الكرباسي التثبت منه وتثبيته في الجزء الثالث من “معجم أنصار الحسين – النساء” الصادر العام 1432هـ – 2011م وهي واحد من 77 مجلداً صدر حتى الآن ضمن سلسلة دائرة المعارف الحسينية التي تفوق السبعمائة مجلد، فضلاً عن الجزئين السابقين.
المرأة الشاهدة الشهيدة
تمثل معركة الطف في كربلاء المقدسة عام 61هـ، الواقعة الفيصل بين منهجين ميزا مسيرة الإسلام حتى يومنا هذا، ولكل منهج رجالاته على مسرح الحياة يتعاركان ولا يلتقيان حتى يأذن الله الحياة الدنيا بالزوال، وكان لكربلاء رجالاتها من الجنسين، وفي زحمة تشابك سنابك الخيل وصهيلها، ولعلعة السيوف وضرباتها، غابت عن الذاكرة أسماء، فما عاد المرء يسمع سواء أسماءً قليلة ربما بعدد أصابع اليد، حتى إذا جاء إسم أحد شهداء الطف عرضا، تساءل الناس ومن يكون فلان؟، تساؤل يُعاد باللائمة على سلسلة المؤرخين الكتاب والخطباء والأدباء والشعراء الذين استغرقوا في أسماء بعينها لها حضورها المتميز في كربلاء، ولكن الإستغراق أضاع أسماء شهداء كانت لهم مواقف مشهودة قبل كربلاء وفي كربلاء وبعدها.
وإذا كان الأمر هكذا وهو كذلك، فلا عتب إذا غابت أسماء النساء اللواتي كان لهن حضورهن المشهود في واقعة كربلاء، وبعضهن ارتوين من كأس الشهادة وإن كنَّ قليلات قياساً بعدد شهداء الطف من الهاشميين والأنصار غير الهاشميين، وهذا ما يحقق فيه العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي في سلسلة معاجم أنصار الحسين(ع) في جزئه الثالث الذي فيه تتمة لحرف الفاء حتى نهاية الهاء.
ويكاد يكون الكرباسي هو أول الباحثين والمحققين الذين يميطون اللثام عن عدد غير قليل من الأسماء النسوية اللواتي حضرن واقعة كربلاء فضلا عن الرجال، واستطاع أن يخضع النصوص التاريخية لمبضع التحقيق ليستخلص الحقيقة من بين ركام التاريخ المبعثر هنا وهناك، ويقرأ ما بين السطور ويحطها على سلمها واضحة، ولذلك فلا عجب أن يستقل معجم النساء في كربلاء بثلاثة مجلدات ومثله معجم الرجال من الهاشميين، ولك أن تتصور عدد مجلدات الأنصار من غير الهاشميين الذين يفوق عددهم الثلاثمائة شهيد التي تخضع الآن لمشرط التحرير.
وبناءً عليه فإن التحقيق ساق الكرباسي الى بيان شخصية 82 إمرأة لهن ذكر في معركة كربلاء، خمسة منهن ذقن شهد الشهادة وهن: أم الحسن بنت الحسن الهاشمية (ن48- 61هـ)، أم الحسين بنت الحسن الهاشمية (ن49- 61هـ)، عاتكة بنت مسلم بن عقيل الهاشمية (53- 61هـ)، قمر بنت عبد النمرية، وهانية الكوفية زوجة وهب (ن40- 61هـ)، ولكل واحدة قصتها، فعلى سبيل المثال كانت قمر بنت عبد النمرية وهي ام وهب بن عبد الله الكلبي قد شهدت مع الإمام الحسين استشهاد زوجها وابنها، ولشدة بأسها أخذت برأس ابنها المحزوز وقتلت به رجلين من جيش يزيد بن معاوية الأموي واستشهدت بعمود على يد رستم غلام شمر بن ذي الجوشن أحد قادة الجيش الأموي، فهذه المرأة الغيورة خرجت للقتال في المرة الأولى مع زوجها ولكن الإمام الحسين(ع) جزّاها خيراً وأرجعها، فهي على علم بأن القتال ليس واجباً على المرأة لكن قدرها أن تستشهد في كربلاء وتوقع على لوحة الخلود بدمها القاني.
الحقيقة قبل العاطفة
ينطوي مكنون الإنسان على كتلة من الأحاسيس والمشاعر وتختلف نسبها بين إنسان وآخر، بيد أن العاطفة تتوقف حركة أمواجها عند سد الحقيقة، فالحقيقة تعني العقلانية، والعقلانية هي دعوة الأنبياء والأوصياء والصالحين، بل هي المنسجمة كليا مع فطرة الإنسان من مؤمن أو غير مؤمن، فضلا عن أن العقلانية منهج بذاته له قيمومته في كل مفاصل الحياة، وهذا ما ينتهجه المحقق الكرباسي في تعامله مع النصوص للوصول إلى أعلى سلّم الحقيقة دون الخدش بالعاطفة والأحاسيس التي تعتمل في صدور الناس تجاه القضية التي يبحثها ويحقق فيها، مع إيمانه الكامل أن كشف الحقائق ربما يفتح عليه أبواب العداء والغضب ممن يقدِّمون العاطفة على العقل، ويكون في قلب مرمى السهام اللاذعة.
وحيث بدأ المؤلف في الجزء الأول من تاريخ المراقد من هذه الموسوعة في إماطة اللثام عن حقيقة قبر سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة الزهراء(ع) ليثبت بأن لبنت النبي محمد(ص) قبراً يقع على أمتار من قبر أبيها(ص) على خلاف الذاهبين الى مجهولية قبرها، فإنه في الجزء الثالث من معجم أنصار الحسين- النساء، يبحث في تاريخ وفاة السيدة الجليلة ليؤكد عبر النصوص والقرائن أنها توفيت عليها السلام في الثالث من جمادى الآخرة عام 11 للهجرة، منتقداً الذاهبين الى المجهولية ويرى أنها: (ظُلمت من قبل مواليها كما من غيرهم، ولعل الجهتين اشتركتا في ذلك عن عمد وجهل، فزادوا على ظُلمها ظُلماً، ومن المعيب جدّاً أن ندّعي ولاءها ولازلنا نُشكك بيوم وفاتها، والذي من المفترض أن يكون يوماً مشهوداً، فكتمناه عن جهل.. ومن الغريب أننا ندَّعي الولاء لها ولا نتبع أهل البيت(ع) في تحديد يوم وفاتها، بل نتسكّع على أعتاب من حادوا عن أهل البيت).
ويجري الكرباسي حسبة رياضية حول يوم وفاتها بناءً على القول بأنها(ع) ماتت بعد أبيها(ص) بسبعين يوما وعلى قول تسعين يوماً، بلحاظ رواية أهل البيت بأن وفاة النبي(ص) وقعت في 28 صفر 11 هـ، وعلى قول غيرهم بأن الوفاة وقعت في 12 ربيع الأول 11 للهجرة، ومجموع عدد الروايات من أهل البيت وغيرهم هي 18 رواية وحاصل ضربها في روايتي وفاة النبي محمد(ص) فمجموع الروايات هي 32 رواية، وعلى هذا الأساس كما يقول الكرباسي: (لابد من إقامة العزاء عليها في كل شهر أكثر من ثلاث مرات، وإذا أُريد أن تكون عشرة أيام – في كل مناسبة وفاة- فلابد من أن نكون طوال السنة في عزاء، وإذا سُحب الامر على سائر المعصومين(ع) فلا يبقى لنا يوم للأفراح والمواليد والأعياد، بل نحتاج إلى أيام أخرى أكثر من أيام السنة الواحدة)، ويرى أن مثل هذا الأمر استغراق في الجهل والتجهيل والتعمية، ويتساءل: (لماذا هذا الإصرار على التعتيم وعلى الإغراق بالجهل حول هذه الأمور التي يمكن كشفها بسهولة، والتي توجب الفرقة وعدم التوحيد في بلاد المسلمين في تواريخ قادتهم والإختلاف فيما بينهم، وكثرة الحديث عن الوفيات مما لا يليق بقادتنا الكرام، ومن هنا أتوجه بكل حب وولاء إلى توحيد التواريخ بشكل موضوعي، وإن كثرة الأقوال لا تخدم المذهب ولا الشعائر لأنَّ الدقَّة متوخاة والتشكيك مرفوض)، ويؤكد أن إقامة العزاء لمدة عشرة أيام وعزاء يوم الأربعين هي من خصائص الإمام الحسين(ع) فحسب: (فإن هذين الأمرين من خصائص الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) والذي كان لأئمة أهل البيت(ع) الدور بإقامتها بخصوصه(ع) دون غيره من الأئمة(ع)، فلم يُروا أنهم جلسوا للعزاء عشرة أيام في غير مصاب الإمام الحسين(ع) بل لم يخصصوا يوماً للأربعين لغيره، بل ميّزوا عزاءه بذلك لأسباب غير خفية على أهل العلم والتاريخ).
ويعود الكرباسي متسائلا بحرقة الباحث الحريص على سلامة النص وإعماله في الحياة اليومية: (وإذا ما أُريد إحياء كل ذلك فلماذا الإختصاص ببعض المعصومين(ع) دون غيرهم، ولماذا الوفيات فقط دون المواليد، أليس إقامة المواليد من الشعائر؟ بل الوارد من أئمة الهدى أنهم قدّموا الفرح على الترح، والسرور على الحزن .. يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا.. بالإضافة إلى أن إدخال السرور إلى قلب المؤمن بشكل عام يوجب الأجر والثواب، بل هو من خير الأمور، فقد روى الكليني عن الرسول(ص): إنَّ أحبَّ الأعمال على الله إدخال السرور على المؤمنين)، وهذا هو أدب القرآن الذي يقدم الفرح والحزن، كما في قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) سورة النجم: 43، حيث قال عطاء بن أبي مسلم الخراساني المتوفى بفلسطين سنة 135 للهجرة في تفسير الآية الشريفة: يعني أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء (تفسير البغوي: 7: 418).
في الواقع، إنَّ تساؤلات الكرباسي في محلها، فالعقلانية هي دعوة السماء، فلا يمكن الركون إلى التعمية والتجهيل لاستدرار العاطفة ولو على حساب نصوص المعصومين، والتاريخ السليم، على أن أخذ العزاء لعشرة أيام في غير الإمام الحسين(ع) هي حادثة جديدة ظهرت إلى الوجود مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979م، عندما راحت تحتفل بعشرة الفجر من كل عام تيمناً بقوله تعالى: (والفجر وليال عشر) سورة الفجر: 1-2، وهي الأيام العشرة الواقعة بين عودة مؤسسة الجمهورية الإسلامية السيد روح الله الموسوي الخميني (1902- 1989م) إلى طهران من دار الهجرة بباريس في الأول من شباط فبراير عام 1979م وسقوط الحكم الملكي في الحادي عشر منه، فوجد البعض فرصة لاقتباس الفكرة وإقامة العزاء خلال عشرة أيام على غير الإمام الحسين(ع) وبخاصة في السيدة فاطمة الزهراء(ع)، ربما عند بعضهم نكاية لاسيما وأن الحكومة الإيرانية راحت تقيم أسبوع الوحدة الإسلامية من كل عام في الفترة من 12 إلى 17 ربيع الثان المقارنة لذكرى ولادة النبي الأكرم محمد(ص) على الروايتين السنية والشيعية والتي تنشد من ورائه توحيد الصف الإسلامي وترشيد الخلافات التاريخية بما يجنب الصدامات المذهبية مع احتفاظ كل مسلم بما يعتقد، وهو أمر لا تنظر إليه بعض التيارات الشيعية بعين الإرتياح، ناهيك عن بعض التيارات السنية التي تعمد الى تلغيم جسور التقارب المذهبي.
نشدان التحقيق
ربما لا يجد المرء فرقاً بين التحقيق والتأليف، فالمحقق ينضد الكلمات لتنتهي الى كتاب، والمؤلف هو الآخر ينثر الكلمات على الوريقات لتفضي الى كتاب، ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فكل تحقيق تأليف وليس كل تأليف تحقيقاً، وهذا ما نراه في هذا المعجم الذي استغرق فيه المؤلف من أوله إلى آخره في تقصي الأسماء النسوية الواردة في واقعة الطف وبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من القول الفصل، محاولاً أن يصل بقارب البحث الى شاطئ الحقيقة المرة التي لا يقبلها البعض لتسالمهم على خلافها ولقرون، ولكنه يوقف مجدافه هناك لا يبالى بخطر النقد والإنتقاد، لأن الحقيقة مرّة والشجاعة كل الشجاعة في تحمل علقمها، فبعض ما يُعتقد أنها حقائق إنما هي من التراث الذي تسالم الناس على الإيمان به تحت بريق العاطفة، ولكن الحقيقة تبقى كما هي تستوعب العاطفة وتستأنس بها وترشدها دون أن تقع أسيرة لها وإلا ما تقدم العلم وما تقدم التحقيق.
ومن باب المثال، شاع أن ميلاد الإمام الحسين(ع) هو الثالث من شعبان عام 4 للهجرة، في حين أن المحقق الكرباسي يتوصل عبر حساباته الى أن الولادة تمت يوم الخامس من شعبان، ومن الشائع أن الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) رحل عن الدنيا عام 95 للهجرة، ولكن المحقق يكتشف من خلال أبحاثه أن الوفاة تمت عام 92 للهجرة، ومثل هذا الأمر يتكرر في أكثر من موضع وهو يحقق في السيرة الذاتية لنساء كربلاء، فيؤكد وجود إحداهن أو ينفيه حسب ما توصل إليه، ولهذا يشدد الكرباسي على: (إن المؤلف يجب أن يكون دقيقاً في كلامه ولا يعتمد على أول كتاب أو مصدر اطلع عليه بل لابد من مراجعة الأمر بدقة، ويتأنى بالحكم في ذلك) وهذه القاعدة طبقها على شخصية ليلى بنت أبي مرة الثقفية (20- 63هـ) والدة الشهيد علي الأكبر بن الحسين بن علي(ع)، فعدد من المصادر ينفي وجودها في كربلاء، ومصادر أخرى تثبت وتضع لها فصلاً في كتاب المأساة الكربلائية، لينتهي المؤلف بعد 33 صفحة من البحث عن شخصيتها إلى ترجيح حضورها كربلاء لأن: (عدم ذكر جل المصادر تفاصيل الحادثة لا يدل على عدم صدق ما رواه الآخرون وفيهم من يعتد بقوله والله العالم بحقائق الأمور).
ولاشك أن الكرباسي لم ينفرد بكتابة سيرة النساء في كربلاء، فقد سبقه الى ذلك كتاب ماضون ومعاصرون، وما يمكن القطع به أنه تفرد بمنهج بحثه في ملاحقة الأسماء والتمييز بينها والفصل فيها ورفع اللبس عن بعضها وإضفاء الألوان على بعض الصور الباهتة التي حرقتها أشعة الزمن وغيب النسّاخ بعض خطوطها، وهي مهمة ليست بالسهلة ولاسيما لكاتب يتوزع قلمه على ستين باباً من أبواب الموسوعة الحسينية، بل يفرغ وسعه وجهده في كل باب دون أن يقصِّر في الأبواب الأخرى، واستطاع بعد ثلاثة أجزاء من التمحيص والتدقيق أن ينشئ سبعة جداول ضم الأول: الشهيدات في الطف، والثاني: الشهيدات خارج الطف، الثالث: الشهيدات اللائي شهاداتهن غير معتمدة، الرابع: اللائي حضورهن الطف فيه شك، الخامس: أسرى الطف، السادس: غير المشاركات، والسابع والأخير: اللائي في وجودهن شك.
ولأن الكتاب من ألفه إلى يائه خاص بالمرأة التي قبلت التحدي في كربلاء يوم فرّ الكثير، فإن المقدمة التي تتحلى فيها خاتمة كل جزء من أجزاء الموسوعة الحسينية كما هي عادة المحقق الكرباسي في إشراك الآخرين فيما يكتب ببيان آرائهم ورؤاهم، كانت نسوية هي الأخرى، وجاءت هذه المرة من الكاتبة الكويتية الدكتورة فهيمة بنت خليل بن أحمد العيد، التي أكدت تحت عنوان: “الموسوعة الحسينية عمل خارق واجتهاد فكري عبقري” أنَّ: (عاشوراء نقطة في دفتر التاريخ، لكنها صبغت كل أوراق التاريخ.. الحسين بعاشورائه سكن روح الزمن، ومن سيرته المتجددة تعلمنا الكثير.. فالإصلاح شعار مقدس.. والدين أهداف سامية .. والقرآن منهج .. والدين المسؤولية .. والإسلام التسامح).
وتستظهر الباحثة الكويتية رئيسة تحرير مجلة “حياء” بعد تصفحها للجزء الثالث من “معجم أنصار الحسين – النساء”: (حرص المؤلف الكرباسي على الجانب العلمي والتوثيقي في طرح الموضوع وتناوله، مع التركيز وعدم إهمال الجوانب الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والنفسية، والتي كثيراً ما تخطاها فطاحلة المؤرخين)، ولفت نظر العيد: (إهتمام سماحته بطرح النتائج بعد كل مبحث وحرصه على عمل الجداول والإحصاءات والفهارس والتحقيقات التاريخية، وبحث نقاط النزاع والمسائل الخلافية حول بعض جوانب تاريخ النهضة الحسينية الإصلاحية، وعدم الإكتفاء بذلك، بل والحرص على وضع الأسس البناءة والقواعد التي تصحح المسارات الخاطئة حسب حاجة المباحث المتناولة مما يثري الطرح ويجعله أقرب للحقيقة والكمال)، وتأسيسا على هذه المطالعات، فإنَّ: (الموسوعة بحق عمل خارق، واجتهاد فكري عبقري، ومثابرة علمية تنم عن همة عالية وإيمان مخلص بالعمل من جانب آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي) واستناداً الى قناعتها الذاتية: (نرى أن الشيخ قد وفق باختيار حوارييه وعلى رأسهم المفكر الدكتور نضير الخزرجي الذي يحلق بالقارئ بمؤلفات ومقدمات علمية للموسوعة تميزت باللمسات الأدبية والأسلوب الممتع القريب إلى النفس)، وبنَفَس نسوي يمرر بصره على صفحات متونها نسوية، تعتقد الدكتورة فهيمة العيد: (إنَّ تخصيص المؤلف ثلاثة أجزاء للمرأة إنما يدلل على إيمانه بأن المرأة كانت ينبوع العطاء في كربلاء، لم تستسلم لليأس والدعة وحب الرفاهية، بل كانت التضحية بعينها حينما قدمت كل ما لديها وإن طال، سواء نفسها العزيزة أو وليدها الرضيع).
أعتقد أن مَن يشكك بدور المرأة في النهضات الإنسانية التي غيرت مسار التاريخ عليه أن يضع ألف علامة تعجب أمام ناظريه ويعيد متبنياته ويراجع أدبياته، فما قامت الإنسانية بذراع الرجل دون المرأة، فما استوى قدر الإسلام إلا على أثافي قوة المنطق وهو لسان النبي محمد(ص) وما يتلوه من قرآن منزل، وقوة الإقتصاد المتمثل بمال خديجة(ع) ودفاعها عن النبي(ص)، ومنطق القوة المتمثل بسيف علي بن أبي طالب(ع)، وعلى غرار مكة والمدينة، ما استوت سفينة النهضة الحسينية على جودي الحياة والبقاء في كربلاء والكوفة، إلا بقوة المنطق الذي نادى به الإمام الحسين(ع) لإصلاح ما اعوج من عود الأمة الإسلامية، وقوة الإستبسال ممتشطاً حسام السِّلَّة غير آبه بوسادة الذِّلَّة هو وأنصاره، وصلابة الموقف النسوي المتمثل بزينب الكبرى إبنة الإمام علي(ع)، التي تصدت للمؤامرة الإعلامية وأفسدت على الحاكم أحلامه، فكانت كربلاء وكانت زينب، فكما لا تكتمل دورة الحياة دون قطبي الرجل والمرأة، فلا تكتمل دورة النضال الإنساني بالرجل دون المرأة، ولكل دوره في عالم البناء والإصلاح.
الرأي الآخر للدراسات- لندن