عن الأقلية الحاكمة في مصر الآن
دخل الاستقطاب السياسي في مصر مرحلة نوعية جديدة مع إعلان محمد مرسي عن تحويل «مسودة الدستور» إلى الاستفتاء العام منتصف الشهر الجاري، وهي المسودة التي أعدها مكتب الإرشاد في جماعة «الإخوان المسلمين»، وأخرجتها إلى العلن «جمعية تأسيسية» تتكون حصراً من ممثلي التيار الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي. وذهبت العقلية الإخوانية إلى تنظيم تظاهرة مليونية حشدت لها الأنصار من كل محافظات الجمهورية أمام جامعة القاهرة، لتعلن تأييد مرسي وتمهد لإعلان الرئيس عن خطوته. وخرجت تظاهرة التيار الإسلامي تحت عنوان «يوم المرحمة»، مع كل ما يحمله العنوان من حمولة فجة ومباشرة. ولأن «يوم المرحمة» هو يوم فتح مكة، حاولت التظاهرة وصم المعارضين لمرسي وحكم جماعته للبلاد باعتبارهم كفاراً، وشبهت مصر ضمناً بمكة الجاهلية؛ بعد أن ثبتت مرسي وأهله وعشيرته باعتبارهم «جماعة المسلمين». هكذا أبدعت القريحة القطبية ـ نسبة إلى سيد قطب ـ التي تسيطر على جماعة «الإخوان المسلمين» منذ سنوات، فحولت الخلاف السياسي إلى غزوة، بعد أن جعلت حقوق المصريين الثابتة وغير القابلة للمساومة مسألة قابلة للنقاش. صدحت حناجر التظاهرة: «الشعب يريد تطبيق شرع الله» و«يا بديع يا بديع أنت تأمر واحنا نطيع»، وبعدها بسويعات قليلة ظهر محمد مرسي على الشاشات ليعلن ـ كما كان متوقعاً ـ تحويل هذه المسودة على الاستفتاء العام، في محاولة واضحة ومكشوفة لكسر إرادة المعارضين وفرض رؤية أقلية سياسية تتمثل في تيار سياسي واحد على عموم المصريين، من طريق استخدام صلاحياته المنصوص عليها في الإعلان الدستوري المطعون في شرعيته، وبالرهان على قدرة تياره و«عشيرته» على حشد بسطاء المصريين للتصويت بنعم في الاستفتاء.
لم يجد محمد مرسي غضاضة في الحديث عن الشرعية والديموقراطية في خطابه أول من أمس، على الرغم من أن جماعته الحاكمة، أو «أهله وعشيرته» ـ على ما يقول ويكرر ـ ما زالت بحكم الواقع والقانون «جماعة غير شرعية»، فهي ليست مسجلة في أي جهة رسمية مصرية باعتبارها جمعية، ولا تخضع للقانون المصري، ولا تجري عليها عمليات فحص وتدقيق مالي من أي نوع مثلما يجري لكل الجمعيات والمؤسسات المصرية. خرج محمد مرسي على المصريين متباهياً بشرعيته وبالأغلبية التي أوصلته إلى مقعد الرئاسة (25 في المئة في الجولة الأولى و51 في المئة في الجولة الثانية ومدفوعة بالاعتراض على المرشح المنافس وليس التأييد له)، في حين أن من كتب مسودة الدستور «أقلية سياسية» من تيار واحد، في ظل غياب ممثلي الكنيسة المصرية والعمال والفلاحين والتيارات السياسية الليبرالية والقومية واليسارية.
وتزداد فداحة ما تفعله «الأقلية السياسية» من تيار الإسلام السياسي في كتابة مسودة الدستور مع ملاحظة تلك الأقلية بالذات، التي تدير جماعة «الإخوان المسلمين» منذ سنوات. وإذ تعكس ممارسات مرسي وسياساته تأثراً واضحاً بالراحل سيد قطب، الذي تبنى خطاً راديكالياً يكفر المجتمع ويضع «الإخوان المسلمين» فوق الحراك السياسي باعتبارهم «جماعة المسلمين» وليس مجرد جماعة من المسلمين. نشأ «التيار القطبي» في المهجر خارج مصر في نهاية السبعينيات، وقدر عدده أنذاك بالعشرات، ولكن ارتباطاته العميقة في أربعة أركان الكرة الأرضية، جعلت منه مركز ثقل فائق الأهمية في هيكلية الجماعة وبنية تنظيمها.
ولعل اللحظة الفارقة في حياة القطبيين قد تمثلت في عودة رموز «التيار القطبي» من الخارج دفعة واحدة بمنتصف الثمانينيات تحت عباءة عضو مكتب الإرشاد وقتذاك الحاج مصطفى مشهور الذي أصبح مرشد «الإخوان المسلمين» لاحقاً وهم: محمد مرسي (رئيس الجمهورية حالياً) وخيرت الشاطر (الزعيم الفعلي للجماعة) ومحمود عزت (قائد التنظيم العسكري حالياً) ومحمد بديع (مرشد «الإخوان المسلمين» حالياً). وبعد وفاة المرشد السابق عمر التلمساني عام 1986، الذي وصف هذه المجموعة بأنها «تنظيم العشرات» وأرسل إلى مسؤولي الجماعة في الخارج محذراً منها، فقد انفتح الطريق واسعاً أمام المجموعة القطبية لتسيطر رويداً رويداً على جماعة «الإخوان المسلمين». حيث بدأت هذه المجموعة في نسج سيطرتها على التنظيم بالتبديل والإحلال، فأزاحت بمرور الوقت رموز الأجنحة الإصلاحية أمثال عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب والسيد عبد الستار المليجي، وثبتت في أماكنهم أتباعاً يدينون لها بالولاء، حتى أحكمت هذه الحفنة القليلة قبضتها في النهاية على كامل التنظيم.
لا يملك محمد مرسي وأهله وعشيرته كتابة تاريخ ودستور للبلاد وحده وبأثر رجعي، وكأن جماعة «الإخوان المسلمين» قادت الانتفاضة ضد مبارك ونظامه، وهو ما لم يحدث. لا شرعية ثورية لأهله وعشيرته، فلم يقودا التظاهرات في بداياتها، بل أعلنوا عدم نزولهم إلى الميدان يوم 25 يناير 2011، وظلت الجماعة تفاوض النظام لسنوات طويلة قبل الانتفاضة الشعبية.
تفاوض محمد مرسي مع النظام السابق مباشرة ونسق انتخابات عام 2010 ـ في شهادات موثقة من أعضاء الجماعة وصحف مصرية وقتذاك ـ بخصوص إخلاء دوائر انتخابية بعينها أمام رموز نظام مبارك، والاتفاق على ترشيح «الإخوان المسلمين» على عدد محدود من المقاعد. وبعد سقوط مبارك فقد أبرمت جماعة «الإخوان المسلمين» تحالفاً واضحاً مع «المجلس العسكري»، فخرج الاستفتاء الأول في مارس/آذار 2011 بنعم كبيرة لمصلحة الانتخابات أولاً والدستور لاحقاً، في ظل تحالف فلول النظام السابق والعسكر مع التيار الإسلامي. وإذ أخطأ كثيرون في قراءة نتائج الاستفتاء وانتخابات البرلمان المنحل باعتبارها مؤشراً على حجم التيار الإسلامي، إلا أن الواقع يقول إن التيار الإسلامي يملك كتلة وازنة في الشارع المصري ولكنها لا تقارب الثلثين بأي حال.
والدليل على ذلك أن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية قد أعطت التيار الإسلامي حوالي 42 في المئة من الأصوات (مجموع أصوات محمد مرسي وعبد المنعم أبو الفتوح) مقابل 58 في المئة من الأصوات للتيارات المدنية (مجموع أصوات حمدين صباحي وعمرو موسى وأحمد شفيق). الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية: 42% إسلام سياسى (مجموع أصوات مرسى وأبو الفتوح) فى مقابل 55% تيار مدنى (مجموع أصوات صباحى وموسى وشفيق).الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية: 42% إسلام سياسى (مجموع أصوات مرسى وأبو الفتوح) فى مقابل 55% تيار مدنى (مجموع أصوات صباحى وموسى وشفيق).لم تكن جماعة «الإخوان المسلمين» حركة ثورية طيلة عمرها، بل حركة إصلاحية تتبنى المكاسب المرحلية وتهادن السلطات القائمة أياً كان توجهها السياسي. كيف يمكن الآن وبعد مرور ما يقارب سنتين على اندلاع الانتفاضة الشعبية المصرية أن تحاول الجماعة والتيار الذي يهيمن على مقدراتها إعادة التاريخ إلى الوراء واقتراف محاولة كتابة دستور ينصّبها وصياً على المجتمع وقيمه المؤسسة؟ وكيف يمكن لجماعة حنثت بكل وعودها طيلة السنتين الماضيتين (الترشيح على 30 في المئة فقط من مقاعد البرلمان، ثم 40 في المئة ثم 50 في المئة، ثم الترشح على كامل مقاعد البرلمان، والتعهد بعدم الدفع بمرشح للانتخابات الرئاسية، ثم الدفع في النهاية بمرشحين لمقعد الرئاسة، والتعهد إبان الجولة الثانية بإعادة تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور ثم الحنث بالوعد بمجرد الجلوس على كرسي الرئاسة… وكلها وعود موثقة)، أن تطرح مبادرات للحوار الوطني؟
فات على مرسي وعشيرته أن الغالبيات العددية لا تكتب دستوراً، واستغلق عليه أن الديموقراطية لا تعني أنك تستطيع فرض ما تريد بقرار ثم تدعو إلى استفتاء شعبي عليه بقرار آخر فيتغطى بعباءة من المشروعية الشعبية. لا تورد الإبل هكذا، ولا تكتب الدساتير إلا بالتوافق وليس بالغالبيات العددية، كما أن حقوق المصريين غير قابلة للتقادم ولا يمكن إسقاطها عبر الاقتراع!
ما زالت الكتلة المدنية صامدة في ميدان التحرير منذ الأسبوع الماضي، وما برحت متمسكة بإسقاط الإعلان الدستوري والاعتصام في الساحات والميادين حتى تحقيق ذلك، وصولاً إلى إعلان محتمل للعصيان المدني. وساهم الاستقطاب الجاري في البلاد منذ الإعلان الدستوري في بلورة قيادة موحدة لهذه الكتلة المدنية (محمد البرادعي وحمدين صباحي)، وهو ما لم تحظ به في أي وقت منذ 25 يناير/كانون الثاني 2011. تعكس مسودة الدستور الإخواني كفاءة متدنية للدولة الجديدة بعد الإخوان التي تريدها الأقلية السياسية المشكلة من تيار واحد، والمسيطر عليها بدورها من الأقلية القطبية داخل الجماعة، وكأن عشرات الملايين من المصريين الذين صنعوا الانتفاضة الشعبية في شوارع وميادين مصر بالدماء والأرواح في تلك الأيام الثمانية عشر المجيدة الممتدة من 25 يناير/كانون الثاني وحتى الحادي عشر من فبراير/شباط 2012، يمكن القفز على إرادتهم وطموحاتهم. وحين تحاصر عشيرة الرئيس المحكمة الدستورية العليا وتمنع القضاة الأعضاء من دخولها وإصدار الأحكام، في ظل صمت رسمي كامل، تكون الدولة المصرية تحت حكم الجماعة قد أعلنت إفلاسها رسمياً وعلى رؤوس الأشهاد وذلك في غضون شهور قليلة من تولي محمد مرسي منصب رئاسة الجمهورية. ستشهد مصر تحركات شعبية ومبادرات سياسية في الأسبوعين المقبلين، والصورة ليست بتلك البساطة التي يتوهمها التيار القطبي في الجماعة: عروض مسرحية، فمؤامرة على الدستور، فاستفتاء، فمشروعية شعبية وانتهى الموضوع.
لن تتمكن المجموعة القطبية النافذة في جماعة «الإخوان المسلمين» والسادرة في غيها السياسي من فرض رؤاها وتصوراتها على عموم المصريين، ولن ترضى الكتلة المدنية الصامدة في الميادين منذ ما يقارب السنتين والتي تطور يوماً بعد يوم أفقها السياسي بكسر إراداتها، أو تقبل بهيمنة أقلية الأقلية على مصيرها ومستقبلها. والأيام بيننا!
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية ـ القاهرة