هكذا يتسلّل المسلّحون اللبنانيّون إلى سوريا ولهذه الأهداف
بين العام 2004 والعام 2007، كانت سوريا عبارة عن ممرّ لمن يُطلقون على أنفسهم إسم “المجاهدين”، بحيث تدفّق آلاف الإسلاميّين من مختلف أنحاء العالم إلى سوريا، ومنها تسلّلوا إلى العراق لمقاتلة “المحتلّين الأميركيّين الصليبيّين” والقوّات الحليفة. وفي العام 2011 وخصوصاً العام 2012 إنقلب السحر على الساحر، بحيث أصبح “الجهاديّون” أنفسهم يتسلّلون إلى سوريا وليس منها.
وإذا كانت عمليّات التسلّل من العراق إلى سوريا محدودة جداً، مثلها مثل عمليّات التسلّل من الأردن إليها، فإنّ وتيرة هذه الحركة المسلّحة هي أعلى من جهة كل من تركيا ولبنان إلى سوريا. وإذا كانت المعارك في أفغانستان في الثمانينات، وكذلك في الشيشان في التسعينات، لم تستقطب سوى عدد قليل من “الجهاديّين” من غير أبناء البلد (نحو 3 % فقط من مجمل المقاتلين)، فإنّ واقع الحال في العراق، وفي سوريا أخيراً، هو غير ذلك، حيث تستقطب المعارك أعداداً كبيرة من المقاتلين “الأجانب” (نحو 15 % من مجمل المقاتلين ضد النظام).
وتدخل في هذا السياق، خطوة المجموعة التي تحرّكت من جرود وادي خالد في الأيام القليلة الماضية، ووقعت في كمين مسلّح في بلدة تل سارين قرب قرية العرموطة في تلكلخ السوريّة التي تبعد نحو 4 كيلومترات فقط عن الحدود اللبنانية، وتبعد 45 كيلومتراً إلى الغرب من مركز مدينة حمص على الطريق الدولي. ويتمركز مئات المسلّحين المعارضين للنظام السوري في تلكلخ التي تتعرّض لهجمات دورية من الجيش السوري، والتي هاجرها الكثير من أهلها إلى بلدات سورية مجاورة وحتى إلى لبنان. ويتحرّك المسلّحون المذكورون من مدينة تلكلخ وإليها، من مناطق مثل ريف حمص وريف بانياس ومن منطقة وادي خالد اللبنانية، وبالنسبة إلى المجموعة المسلّحة التي إنطلقت من لبنان ووقعت في الكمين، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: تبيّن أنّ اللبنانيّين الذين قتلوا هم في العشرينات من العمر بأغلبيّتهم، وهم بالتالي يفتقرون إلى الخبرات القتالية الميدانية الفعليّة، بعكس “المجاهدين” الذين يتوافدون من العراق ومن أفغانستان، والذين هم أكبر سنّاً، وشاركوا في الكثير من المعارك، وخبرة المجموعة اللبنانية تقتصر على المشاركة ببعض المواجهات المسلّحة في طرابلس.
ثانياً: تبيّن أيضاً أنّ اللبنانيّين الذين قتلوا في تلكلخ هم من عائلات فقيرة، ومن سكان طرابلس بشكل خاص، وتحديداً مناطق مثل السويقة والقبّة والتبانة وأبي سمراء والمنكوبين، إضافة إلى المنية، وقد ساهم ذلك في سهولة تجنيدهم، نتيجة جوّ الشحن المذهبي السائد حالياً في المنطقة، ونتيجة تنامي نفوذ التيّارات الإسلاميّة المتشدّدة في عاصمة الشمال، ونتيجة التعبئة ضد “حزب الله” وإتهامه بمؤازرة النظام السوري عسكرياً.
ثالثاً: تبيّن كذلك الأمر أنّه لم يكن هناك إغراءات مالية تُذكر في عمليّة التجنيد، بل تركيز على البعد الديني والمذهبي، مع إعتماد شعارات مثل “نصرة المظلوم على الظالم”، ومع التركيز على “المجازر” التي يرتكبها النظام السوري ضد “أهل السنة”.
يُذكر أنّه وبهدف منع سقوط الحدود بين سوريا لبنان بيد مقاتلي المعارضة السورية، كما حصل في كثير من النقاط الحدودية بين سوريا وتركيا، قام الجيش السوري في الماضي القريب بتعزيز تواجده في العديد من المواقع، وإستبدل القوّات الحدوديّة المعروفة بإسم “الهجّانة”، بفرق قتالية نخبويّة.
والإجراءات العسكرية السورية، من تحصينات ومن إنتشار للقوات وللمدرّعات، إمتدّت على طول الحدود مع لبنان، وتحديداً من دير العشاير، مروراً بطفيل ومرتفعات عرسال، وصولاً إلى مشاريع القاع، إضافة طبعاً إلى معابر جديدة يابوس وجوسيه والمصنع والعبّودية والمعابر غير الشرعيّة أيضاً، لكن طول الحدود السورية مع لبنان يبلغ 180 كلم، الأمر الذي يجعل مسألة ضبطها مستحيلاً، خاصة في ظلّ وجود قرى وبلدات حدودية مناهضة للنظام السوري. وفي حين نجح الجيش السوري في منع أعمال التسلّل من جهة البقاع، خاصة بفضل تعاون قسم من أبناء المنطقة معه، ونتيجة طبيعة هذه المنطقة الجرداء والتي يسهل مراقبتها من أعالي القمم، فإنّه فشل في ضبط الوضع كلياً في منطقة وادي خالد التي تضم مناطق وعرة مكسوّة بالأشجار والأشواك والنباتات الحرجيّة، بشكل يسهّل الإختباء والتسلّل.
وبالتالي، وإنطلاقاً من هذه الطبيعة الجغرافية الملائمة، ومع حلول الظلام، تتحرّك دورياً مجموعات من جرود وادي خالد في إتجاه الحدود السوريّة، ويتراوح عدد أفراد المجموعة الواحدة بين 15 و20 مقاتلاً، ولا يزيد العدد عن ذلك، بهدف عدم إثارة الشبهات، ولتجنّب لفت النظر، كما أنّه لا يقل عن ذلك أيضاً، بهدف التمكّن من خوض معركة مسلّحة في حال صادف أفراد المجموعة أيّ دورية للجيش السوري النظامي.
وبعد أن تتحرّك المجموعة من الداخل اللبناني إلى الحدود السورية، تحت جنح الظلام، يلاقيها عدد من أبناء المنطقة السوريّين الذين يقلّ عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة والذين يُعرفون بإسم “الكشّافة”، نظراً لمعرفتهم الكبيرة بأدق تفاصيل الممرّات والمسارات غير المرئية داخل القرى والبلدات السورية، ويتولّى هؤلاء توجيه المجموعة المقاتلة، وإرشادها إلى الوجهة المقصودة، من دون الإقتراب من أي مركز أو حاجز للجيش السوري، وحتى مع تجنّب المرور بمناطق مأهولة.
ويتمّ في أغلبيّة الأحيان سلوك طرقات وعرة، بعضها مُستحدث، وأغلبيتها كانت تُستخدم في السابق من قبل مهرّبي البضائع والممنوعات. وفي بعض الحالات، وعندما تكون الوجهة المقصودة بعيدة، ترتاح المجموعة في البساتين قبل متابعة تقدّمها، أو حتى تختبئ في أحد المنازل المهجورة، أو في أحد المنازل النائية والمملوكة من قبل أشخاص موثوقين من قبل “الكشّافة”.
والهدف الأساسي للمجموعات القتالية في سوريا، هو دعم القوات المعارضة في حرب الإستنزاف التي تخوضها ضد الجيش السوري النظامي، وتنفيذ هجمات خاطفة على غرار العمليّات التي تندرج ضمن تكتيكات “حرب العصابات”. وهدف “المجاهدين” اللبنانيّين يصب في هذا الإطار العام، وخصوصاً تقديم الدعم لقوّات المعارضة السورية التي تعاني من ضغوط من الجيش النظامي في بعض المواقع، والهدف البعيد لهؤلاء المقاتلين يتمثّل بإيجاد موطئ قدم حدودي دائم للمعارضة السوريّة المسلّحة، لتشكيل نقطة تواصل دائمة مع الحدود اللبنانية، لتسهيل الدعم اللوجستي بالعتاد والعديد، وكذلك بالمؤن والأدوية.