الصّراع العبثي بين الإسلاميين وخصومهم
متى سيعرف قادة المجتمع المدني السياسي في بلاد العرب الفرق بين المنافسة والعداوة؟ فالأولى مقبولة وأحياناً ضرورية، خصوصاً إذا كانت تعني التسابق إلى الخير . أما الثانية فهي تدمير أو إقصاء للآخر . نذكّر بتلك البديهية بمناسبة ما نشاهده من معارك معيبة، وما نسمعه من هتافات جارحة في ساحات التجمعات الجماهيرية في مدن أقطار ثورات وحركات الربيع العربي .
جماهير أنصار الأحزاب السياسية الإسلامية يصمون الجبهة المقابلة لهم من خليط الليبرالية والقومية واليسارية بتهمة العلمانية الموحية عند العامة بالكفر والإلحاد . بينما جماهير الجبهة المقابلة تصم الإسلاميين بالظلامية والتخلف . وشيئاً فشياً نعود القهقرى إلى الخمسينات من القرن الماضي عندما مورست العداوة الدموية المتعصّبة بين مختلف الأيديولوجيات في أرض العرب، فأسهمت إلى حدّ كبير في تخلُف الحياة السياسية العربية عن الانتقال إلى رحاب الديمقراطية المتسامحة .
ما يوجع في هذا المشهد شعور الإحباط عند الذين عملوا عبر العقود الثلاثة الماضية لتقريب وجهات النظر بين فكر الإسلام السياسي، وبين فكر الحركات القومية العربية على الأخص، ونجحوا في تكوين المؤتمر القومي الإسلامي الذي يضم ممثّلي الجهتين، ويجتمع دورياً لمناقشة قضايا الأمة ويخرج بتصورات مشتركة حول تشخيص وعلاج تلك القضايا . والسؤال: ما هو هذا المرض الذي لا تريد القوى السياسية العربية أن تتعافى منه، مرض عدم القدرة على التعايش والتسامح في أجواء التنافس الشريف العفيف، بدلاً من الإصرار على قلب كل خلاف في وجهة النظر إلى عداوة كريهة وإلى حروب داحس والغبراء؟ وإلا، أين ذهبت الساحة الفكرية والأيديولوجية المشتركة بين الفريقين، والتي كانت أكبر بكثير من ساحة الاختلاف والتباين؟
يشاهد الإنسان هذه المعارك والصراعات العبثية على الأخص في مصر وتونس والعراق وليبيا واليمن فيسأل نفسه: هل الاستيطان الاستعماري الصهيوني الذي يبتلع أرض فلسطين يومياً ويتجذّر في الأرض العربية كعلاقات اقتصادية واتفاقيات سياسية وأمنية وكعلاقات حميمية مع الكثير من مسؤولي الأنظمة العربية، وهل الرّجوع المقتحم للنفوذ الاستعماري الأمريكي في كل أرجاء الوطن العربي وصولات وجولات ساسته وعساكره وجواسيسه وصانعي الرأي فيه؟ وهل المحاولات المستميتة لفلول الثورات المضادًة وأزلام الاستبداد والاستغلال في السياسة والاقتصاد؟ وهل ضعف الجامعة العربية ومنظمة الدول الإسلامية أمام إملاءات أمريكا المتناسقة مع المصالح الصهيونية إلى حدود الابتذال والحقارة؟ هل هذه القضايا لا تستدعي اعتبارها أولويات قصوى في حياة الأمة تفرض على القوى السياسية الإسلامية والقوى الليبرالية والقومية واليسارية محاولة الوصول إلى حلول وسط بشأن الأمور الدستورية، وأمور إدارة دفة الحكم إبّان هذه الفترة الانتقالية من حياة الأمّة؟
ما يحيّر أنه إبان المعارك ضد الاستبداد الداخلي لا تجتمع الجهتان لإسقاطه، وعندما تنجح جماهير الأمة بعفوية وبحس الغضب لانتزاع الكرامة والحرية والعدالة، فإنها تواجه الثورات المضادة في الداخل والتدخلات الخارجية لاحتواء وإغواء ماحققته تلك الجماهير، وتفشل الجهتان أيضاً في التعاون في ما بينهما لإنقاذ ماحققه الشهداء والمناضلون، ولا تستطيعان التعايش والتعاون أثناء فترة انتقالية محدودة .
يستطيع الشعب العربي أن يتفهم وجود تنافس على السلطة بين الأحزاب السياسية فهذا جزء من الحياة السياسية الديمقراطية في كل مجتمعات العالم الديمقراطية، ولكن ما لا يمكن تفهمه هو قلب كل اختلاف في وجهة النظر وكل اختلاف حول ممارسة الحكم إلى صراع عبثي يضيع الأولويات ويعطي فرصة للاستبداد الداخلي والنفوذ الخارجي لكي يدمرا ما ضحّى الناس من أجله .
الفترة الانتقالية العربية الحالية تستدعي وجود قيادات سياسية مدنية ناضجة وعميقة الإدراك لحقائق العمل السياسي ولحقائق ممارسة الحكم المعقدة، خصوصاً في أرض عاشت أربعة عشر قرناً من الاستبداد والاستغلال . على الذين لايستطيعون الارتفاع إلى ذلك المستوى أن يتنحوا ويتركوا الساحة لغيرهم، إذ يكفي الأمة ماعاشته من آلام وأحزان منذ أن فرض عليها الملك العضوض والظلم التاريخي الذي تريد أن تنهيه .
دعنا نذكر من يؤمنون بالإسلام كعقيدة ومن يتبنوه كثقافة بهذه الآية الكريمة “ولا تستوي الحسنة ولا السّيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” . القوى السياسية العربية المتصارعة تحتاج إلى أن تعيش حكمتها في هذه الفترة المبهرة من حياة الأمة