موجة ثالثة للربيع العربي
تثبت التطورات المتوالية في دولتي مهد الربيع العربي: تونس ومصر، أن التفاعلات التي يمور بها مجتمعا هذين البلدين هي أبعد من توقعات من يرصدوا هذه التطورات فهي تسبقهم دائماً، سواء كان الراصدون ممن يمحضون التغيير العربي ثقتهم، أو من المتطيّرين من هذا الربيع إلى درجة لم يتردد بعضهم معها عن وصفه بأنه خريف، وربيع الدجالين . فجاءت تطورات الأسابيع الماضية في تونس الخضراء وأرض الكنانة لتدلل على جملة أمور جوهرية متصلة:
الأمر الأول أنه بعد مضي نحو عامين على الثورتين، كشفت الشواهد أنه لا يمكن القبول لدى أعرض شرائح المجتمع، بنظام شبه شمولي في البلدين، ليخلف ديكتاتورية مقنعة وديمقراطية شوهاء، ويكرر بصورة أو بأخرى مآسي الماضي، وربما ما هو أسوأ منها . تم التوصل إلى هذا القناعة بعد أن دخلت قوى اجتماعية عديدة شبابية ونقابية وحزبية في معمعان العمل السياسي، وبعد أن تحرر المجتع السياسي من قيوده وترهّله، وفي ظل إعلام مفتوح شديد الحيوية يعتمد الصورة والصوت بالدرجة الأولى، ويشارك في قيادة الرأي العام وصناعة الحدث .
الأمر الثاني: أن الاحتجاجات المتجددة لم تكن من قبيل الافتئات على الشرعية الجديدة، بقدر ما جاءت تصويباً للمسار واهتداء بروح العدل والمساواة والحرية التي ألهمت الثورتين، والحؤول دون انفراد قوة سياسية واجتماعية واحدة بتقرير مصير البلاد . ولو لم يكن الحال كذلك لثارت احتجاجات من قبل على وصول حزب النهضة في تونس إلى البرلمان والحكومة، وعلى نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر . لم يحدث ذلك، وجرى الارتضاء – على مضض – بتلك النتائج . ثم نشبت الخلافات في مصر على الدستور والجمعية التأسيسية والإعلان الدستوري، فيما تتمحور الخلافات على الهوية الدستورية للنظام الجديد، وعلى إخلال قوى سلفية إخلالاً جسيماً بالقانون، وتهديدها للسلم الأهلي، ومحاولة حرمان المجتمع من الإنجازات التي حققها على صعيد الحريات الإعلامية، وحرية البحث العلمي والفنون والثقافة بعامة، علماً أن تلك القوى أسهمت في إيصال النهضة إلى الحكم .
الأمر الثالث: أنه من دواعي السخرية أن توصف القوى المعترضة بأنها تمثل النظام السابق سواء في مصر أو تونس . ذلك أن قوى الاحتجاج الشبابية الحالية هي نفسها تقريباً التي خاضت غمار الثورة، ودفعت البلاد نحو التغيير، مضافاً إليها كتل شعبية واسعة متضررة من تغليب حزب حاكم على الحياة السياسية والعامة وعلى الفضاء الاجتماعي . وفي النتيجة فإن القوى التي تخوض الاحتجاج هي هذه المرة، أكبر وأعرض وأكثر تنوعاً من القوة الطليعية التي قادت الثورتين، وهذا يدلل على اتساع حجم الضرر ووطنية الاحتجاجات .
الأمر الرابع: أن هناك مخاوف مشروعة وجدية من انفلات العنف وخاصة في مصر الأكثر كثافة سكانية والأشد معاناة لمشكلات اجتماعية . والعنف يتشارك فيه الأهالي الذين باتوا يرون تجدد شبح الحزب الوطني الحاكم، في حزب آخر يدير الظهر لشريحة كبيرة من المصريين، والقوى المنظمة الإخوانية والسلفية التي أصابت بمقتل عدداً من المحتجين مستخدمة الأسلحة النارية لا السلاح الأبيض فحسب، وأصابت بجروح المئات منهم أمام قصر الاتحادية الرئاسي وفي ميدان التحرير . وتتحمل السلطات المسؤولية الأولى عن وقف العنف واحتوائه، والتحفظ على المعتدين وإحالتهم إلى العدالة . وتخطئ السلطات خطأ جسيماً إذا تهاونت في الحد من العنف المنظم الذي يرتكبه الإخوانيون ومن يدور في فلكهم، إذ إن ذلك يشرع الأبواب على العنف، وينزع كل شرعية عن النظام الجديد .
الأمر الخامس: أن هذه التطورات كشفت عن دينامية جديدة بات الشارع السياسي مشحوناً بها في البلدين . هذه الحيوية المتجددة هي بعض من بذار وثمار الربيع العربي الذي نعاه الناعون المنفصلون عن الواقع، وعن مجتمعاتهم وما تمور به من تفاعلات ووعي جديد انتقل إلى الفئات غير المسيّسة، محتفظين برؤى قديمة عن الثورات، ومتسلحين بنزعة نخبوية وإرادوية تنشد التغيير وفق مقاساتها وأجندتها الزمنية ومن دون حامل اجتماعي . وقد علت الأصوات الناعية بعد وصول الإسلاميين في انتخابات حرة حقاً، مع إغفال أن الانتخابات على أهميتها ليست نهاية المطاف في العهد الجديد في كل من مصر وتونس، فالانتقال إلى حياة دستورية جديدة يتطلب توافقاً وتمثيلاً نوعياً لفئات المجتمع وشرائحه، وهو ما بدا أن الإسلام السياسي سائر على طريق الفشل فيه، فيما يسعى إلى تغيير حقوقي واجتماعي وثقافي قسري باسم الديمقراطية والثورة وصناديق الاقتراع . من هنا تجددت الاحتجاجات ذات الطابع الراديكالي الشبابي في مصر والنقابي في تونس، وذلك درءاً لإنتاج ديكتاتورية بدعوى الانتساب إلى الثورة والنطق باسمها .
في الحصيلة، فإن هذه المستجدات المتتابعة فاجأت الراصدين والمتتبعين حتى داخل مصر وتونس، وهي المفاجأة الكبيرة الثالثة . كانت المفاجأة الأولى هي اندلاع شرارة الربيع العربي بما تحمله من قوة تغيير جارفة، والمفاجأة الثانية تمثلت بصعود الإسلاميين في الانتخابات بالحجم الذي صعدوا به، وها هي المفاجأة الثالثة تتمثل في الدفع نحو إرساء عهد دستوري وعقد اجتماعي قانوني يقطع الطريق على أية ديكتاتورية، ويحافظ على كل مكتسبات سابقة