هل الحرب الأهلية السورية في فصلها الأخير أم بصدد مرحلة جديدة؟
امتنع الأسد عن استعمال مخازن أسلحة الدمار الشامل خلال 22 شهراً لأنه يدرك أن هذه الخطوة قد تُجبر القوى الغربية المترددة على التدخل، وقد افترض المحللون أنه قد يأخذ هذه المجازفة إذا شعر بأنه خسر جميع الفرص.
توالت التوقعات التي تشير إلى دخول الحرب الأهلية الدموية في سورية مرحلتها الأخيرة بعد التحذيرات اللاذعة التي وجّهها الرئيس باراك أوباما ومسؤولون أميركيون آخرون هذا الأسبوع حين أعلنوا أن الرئيس السوري بشار الأسد سيواجه “عواقب وخيمة” أو “سيُحاسَب” إذا استعمل الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، يستعمل النظام الآن الضربات الجوية وقذائف المدفعية ضد أحياء الثوار في العاصمة، وقد فقد سيطرته على مساحات واسعة من شمال وشرق سورية. امتنع الأسد عن استعمال مخازن أسلحة الدمار الشامل خلال 22 شهراً لأنه يدرك أن هذه الخطوة قد تُجبر القوى الغربية المترددة على التدخل، وقد افترض المحللون أنه قد يأخذ هذه المجازفة إذا شعر بأنه خسر جميع الفرص.
غاز السارين
نقلت قناة “إن بي سي نيوز” يوم الأربعاء أن المسؤولين الأميركيين يقولون الآن “إن الجيش السوري يحضّر الذخائر الكيماوية لاستعمالها، وقد ذكرت القناة في اليوم السابق أن مسؤولاً بارزاً في البنتاغون أكد عدم وجود أي إثبات بعد على أن الجيش السوري بدأ عملية خلط المواد الكيماوية لإنتاج غاز السارين القاتل”. أشار تقرير يوم الأربعاء إلى أن الجيش السوري بدأ يخلط المواد الكيماوية ويحوّلها إلى قنابل، لكنه لم يتلقَّ أمراً باستعمالها بعد.
لكن لم يتّضح بعد ما إذا كانت هذه التقارير تشير إلى مسار الأحداث المرتقبة في سورية. لا شك أن القوات الثورية حققت مكاسب مهمة في الأراضي التي استولت عليها خلال الشهر الماضي، وقد عزز الثوار إمكاناتهم المدفعية وحصلوا على صواريخ أرض-جو حين استولوا على القواعد العسكرية النائية. تم إسقاط طائرتين تابعتين للنظام خلال الأسبوعين الأخيرين، ما يشير إلى أن فئات الثوار تملك الآن بعض الوسائل للدفاع عن نفسها في وجه الضربات الجوية. كذلك، يجد معقل النظام المحاصر في حلب صعوبة في الاحتفاظ بثاني أكبر مدينة سورية بعد أن أطلق الثوار هجوماً متواصلاً على العاصمة دمشق.
السيطرة المفقودة
على الرغم من هذه المستجدات كلها، فمن المبكر على الأرجح أن نعلن اقتراب نهاية هذه الحرب الأهلية التي بدأت منذ 22 شهراً وقتلت أكثر من 30 ألف شخص. لا يزال النظام يتمتع بتفوق كبير في مجال القوة العسكرية بحسب ما قاله هذا الأسبوع جو هوليداي من “معهد دراسات الحرب” لصحيفة “واشنطن بوست”، وقد تعني قلة أسلحة الثوار وتراجع تنظيمهم أن انتصارهم لن يتحقق قبل أشهر عدة. أوضح هوليداي: “ما نشهده يعكس انكماش النظام. نجح الثوار في إجبار النظام على التخلي عن مراكز نائية له”. تشمل الأراضي التي اضطر النظام للتخلي عنها معظم المناطق الحدودية السورية مع العراق وتركيا وحقول نفط في الشرق. صحيح أن نظام الأسد لا يزال أقوى لاعب عسكري داخل البلد، ولكنه لا يسيطر الآن على سورية التي لم تعد دولة قومية موحدة ومركزية. كما أن فشله في تدمير الثورة أو تبديد مكاسبها بعد سنتين من القتال يعني أن قرار النظام الاستراتيجي باستعادة السيطرة على كامل مناطق سورية أصبح أمراً بعيد المنال على الأرجح. ربما تتعلق القضية الأساسية الآن بمنطق “الانكماش” الذي تحدث عنه هوليداي خلال اللعبة النهائية.
تسيطر فصائل ثورية مختلفة (لم تصبح بعد تحت مظلة قيادة عسكرية أو سياسية موحدة) على مساحات من الأراضي في أنحاء البلد، بينما نشأت منطقة كردية مستقلة على طول الحدود التركية بعد أن تنازل عنها النظام لمصلحة ميليشيا كردية تعارض الثورة. حتى المدن الكبرى مثل دمشق وحلب تتضمن الآن “حدوداً” داخلية إثنية وطائفية تشهد تبادلاً لقذائف الهاون والمدفعية. ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي نتيجة مفاوضات جدية، حذر مبعوث الأمم المتحدة الخاص، الأخضر الإبراهيمي، في نهاية الأسبوع الماضي من أن سورية قد تصبح “دولة فاشلة” حيث “تتداعى” المؤسسات الحكومية كي يتم استبدالها بمظاهر “الفوضى والحرب والعصابات والمخدرات وتهريب الأسلحة، والأسوأ من ذلك هو ظهور وجه الصراع الطائفي القبيح”.
الامتيازات العلوية
بحسب رأي بعض الأشخاص النافذين في محيط الأسد، قد يؤدي تفكيك سورية إلى إنقاذ الوضع أكثر مما كان ليحصل إذا هُزم النظام واستُبدل بدولة مركزية قوية يهيمن عليها السُّنة. إن نظام الأسد ليس عبارة عن دكتاتورية شخصية ودينية بقدر ما هو نظام مبني على حكم الأقلية والامتيازات العلوية. ولا يزال الجيش المتماسك والمسلّح والمندفع ذات الغالبية العلوية جوهر النظام وهو مقتنع بأنه يقاتل لضمان صمود طائفته. حتى عندما يعترف بأنه لم يعد يستطيع حكم البلد كله، قد يتعارض منطقه الطائفي مع مساعيه لإثبات نفسه في دمشق، وهي مدينة ذات أغلبية سنية.
يقول الباحث في الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما جوشوا لانديس: “لا أحد يعلم ما يفكرون به داخل أوساط النظام. لكن إذا كان النظام يريد اتخاذ قرارات منطقية، فمن غير المنطقي اختيار “مقاربة شمشون” واستعمال الأسلحة الكيماوية (في إشارةٍ إلى ما ورد في الكتاب المقدس عن شخصية شمشون الذي أراد تدمير كل شيء عليه وعلى أعدائه وقد مات وهو يقاتل). على عكس القذافي في ليبيا، يحكم الأسد باسم طائفة واحدة وقد لا تكون القرارات الأساسية من صنعه وحده. لا يريد الأشخاص العلويون النافذون من حوله أن ينتحروا. هم يريدون حماية أنفسهم وعائلاتهم من الحملة الانتقامية العنيفة التي ستكون حتمية إذا سقط النظام”. يعتبر لانديس أن هذا الواقع يجعلهم أكثر ميلاً إلى تفضيل الانسحاب إلى المعاقل العلوية على طول الساحل، حيث تزداد قوتهم بدل البقاء في دمشق. إذا حصل ذلك، فسيسقط النظام الذي نعرفه لكن لن تنتهي الحرب الأهلية قبل فترة من الزمن.
بلقنة سورية
إذا قرر الفرع الأمني العلوي في نظام الأسد مغادرة دمشق (ربما يشمل أكثر من 50 ألف شخص يخافون على حياتهم)، أفضل ما يمكن أن يحصل بالنسبة إلى هذه الجماعة هو تقسيم سورية إلى معاقل متخاصمة بدل إعادة إنشاء حكومة مركزية قوية يسيطر عليها السُّنة. يبدو أن قرار النظام الاستراتيجي السابق بالتنازل عن مناطق كردية لمصلحة ميليشيا انفصالية لا تنوي الرضوخ لأي سلطة في دمشق يعكس أن النظام يفضّل “بلقنة” تلك الأجزاء السورية التي لم يعد يستطيع السيطرة عليها. لذا سيتمنى النظام أيضاً رؤية أعدائه منقسمين نتيجة الشرخ الحاصل في صفوف الثوار بين الجماعات السلفية الأكثر تطرفاً وتلك التي تُعتبر علمانية وأكثر اعتدالاً. في الوقت الراهن، قد تعترف فرنسا وبريطانيا ودول الخليج بائتلاف المعارضة السورية الذي تشكّل في الدوحة وقطر برعاية غربية “ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوري”، لكن لا يسيطر هذا الائتلاف بعد على الوحدات القتالية ميدانياً.
قلق أميركي
لقد تحققت واحدة من أهم انتصارات الثوار حين اقتحمت ميليشيا “جبهة النصرة” المستوحاة من “القاعدة” قواعد الأسد، علماً أن أعداد هذه الجماعة تتزايد لدرجة أن خصومها يعترفون بأنها تضم 10 آلاف شخص تقريباً، ويؤدي بعضهم دوراً قتالياً رائداً على جبهات المعركة.
تشعر واشنطن بقلق شديد من تنامي نفوذ “جبهة النصرة” في صفوف الثوار لدرجة أن إدارة أوباما تنوي اعتبار هذه الجماعة منظمة دولية إرهابية. يعتبر الكثيرون (حتى في صفوف الميليشيات المعادية للأسد) أن “جبهة النصرة” هي منظمة جهادية لا يوافق الكثيرون على إيديولوجيتها، لكن يرتكز نفوذها المتزايد على استعدادها لأداء دور قيادي في القتال.
قد يؤدي تصنيف “جبهة النصرة” كمنظمة إرهابية إلى ردع حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما دول الخليج، من نقل الأموال إلى هذه الجماعة. زعم تقرير صدر في صحيفة “واشنطن بوست” أن الأسلحة التي أرسلتها قطر، بموافقة الولايات المتحدة، إلى الثوار الذين حاربوا نظام القذافي في ليبيا وصلت إلى المقاتلين الإسلاميين هناك، وذكر التقرير أيضاً أن “الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد في سورية، كما في ليبيا، من أن يوفر القطريون المعدات إلى الجهات المقاتلة غير المناسبة”.
حرب طائفية
لكن يبقى أن نعرف ردة فعل الوحدات المقاتلة على خطوة الولايات المتحدة ضد “جبهة النصرة” بعد أن أصبحت هذه الحركة شريكة قيّمة لها في القتال، بينما يعتبر المقاتلون الثوار أن الولايات المتحدة لم تبذل الكثير خدمةً لقضيتهم.
كتبت صحيفة “السفير” اللبنانية يوم الثلاثاء الماضي:
“يتوقع الكثيرون معركة شرسة بين السلفيين و”جبهة النصرة” في جانب، والجماعات المسلحة الأخرى في جانب آخر، بحجة توحيد “الجيش السوري الحر”، باعتبار أن الجيش الحر لا يمكنه أن يتوصل الى اتحاد من دون تسوية قضية السلفيين والجهاديين بشكل نهائي. وقد يحدث ذلك إذا اشترط الغرب ذلك مقابل إرسال الأسلحة، حسبما يعتقد البعض”.
قد تصبح الحروب الأهلية البينية التي تنشأ داخل الحروب الأهلية الكبرى، كتلك التي اندلعت في لبنان بين عامي 1976 و1992، أفضل أمل كي يصمد المسؤولون النافذون في النظام بعد أن حوّلوا الثورة السورية إلى حرب طائفية دموية منذ سنتين تقريباً. لقد أدت تلك الحرب إلى تقطيع أوصال الدولة السورية تدريجاً، ما يعني أن إعادة إعمارها وفق ظروف جديدة قد يتطلب سنوات مضطربة عدة. هذا ما يتمناه على الأقل المسؤولون البعيدو النظر في أوساط الأسد.