دعوة الجهاد ضد الشعب المصري
هذه صفحة جديدة في تاريخ مصر.
صفحة جديدة في تاريخ الشعب المصري، هذا التاريخ الطويل العميق المليء بالأحداث والتغيرات، على صعيد الجماهير وعلى صعيد القيادة في آن معاً.
هذه ايضاً صفحة جديدة في تاريخ تنظيم «الإخوان المسلمين» الذي لا يمكن ان يقاس بطول تاريخ الشعب المصري، ولكنه مع ذلك تاريخ طويل بمقاييس تواريخ التنظيمات السياسية. وأهم وأخطر ملامح الصفحة الجديدة في تاريخ «الإخوان المسلمين» انها صفحة تفتح على حرب بالغة الخطورة تشنها قيادة هذا التنظيم السياسي ذي الوجه الديني الزائف، ضد الشعب المصري وضد تاريخه وتراثه الثقافي والديني والسياسي ايضاً.
بطبيعة الحال نحن لسنا هنا بصدد تاريخ الشعب المصري. فهذا له مجال آخر. نحن بصدد هذه الصفحة التي نقرأ فيها حرب تنظيم «الإخوان المسلمين» ضد الشعب المصري. ويظهر فيها بوضوح إصرار قيادة «الإخوان» على إخضاع الشعب المصري من خلال إخضاع جماهيره ونخبه السياسية غير الإخوانية لسلطة هذا التنظيم. وليس غريباً ان تكون لهذه الحرب أساليب إخوانية مختلفة عن تلك التي اتبعها هذا التنظيم في حروبه السابقة. من ناحية لأن «الإخوان» يجدون انفسهم للمرة الاولى في مقاعد السلطة، ومن ناحية اخرى لأنهم دأبوا على خوض حروبهم الأخرى ضد قوى خارجية ولجأوا في ذلك الى اساليب المراوغة والتقارب مع الأعداء. فعلوا ذلك مع القصر الملكي المصري، وفعلوا ذلك مع القصر الملكي السعودي، وفعلوه مع القوات المسلحة المصرية، كما انهم فعلوا ذلك ويفعلونه مع الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن الصدام أبداً وسيلتهم في التعامل مع اي من هذه القوى او القوى المرتبطة بها. ولعل علاقتهم بالولايات المتحدة بشكل خاص قد كشفت اساليبهم غير المستقيمة في التظاهر بالعداء مع اقرب القوى ارتباطاً بهم. وهكذا أصبحنا نرى تنظيم «الإخوان المسلمين» يسلم للولايات المتحدة، في وقت يحارب فيه الشعب المصري وتقاليده والأسس التي يقوم عليها تطلعه الى مستقبله ودوره في المنطقة العربية والعالم الإسلامي والعالم الكبير. ولعل سوء قراءة «الإخوان» لطبيعة الشعب المصري، وكذلك سوء قراءتهم للحكام الأميركيين هو الذي يجعلهم مجبرين على أن يُظهروا هذا العداء الشديد لشعب مصر، وفي الوقت نفسه هذه المودة الحميمة لحكام أميركا إدارة وراء أخرى، وبصفة خاصة الادارة الحالية التي تتلاقى اهدافها في المنطقة العربية في السنوات القليلة الاخيرة مع خطط «الإخوان» لمصر والمنطقة العربية برمتها.
وهكذا فإننا نشهد قادة الإخوان المسلمين ـ الذين كانوا قد اختفوا في المرحلة السابقة ـ ينقضّون على فرصة جديدة للظهور والكسب. وتظهر هذه الفرصة الجديدة من خلال حملات الشتائم التي تظهر في خطب هؤلاء الزعماء الذين يجدون انفسهم فجأة تحت الأضواء لأول مرة، بعد ان كانوا مجرد لاعبين لأدوار خامسة، وربما عاشرة، في ظل حكم حسني مبارك، الذي منحهم فرصة الخروج من السجون الى مقاعد البرلمان.
يعني هذا ان الإخوان المسلمين ـ وخاصة قياداتهم ـ ليسوا سذجاً. انهم يعرفون كيف يستغلون الفرص. هكذا انقضّوا على ثورة «25 يناير» 2011 بعد ايام من صعودها المضيء في الميادين المصرية، وهكذا حاولوا إيهام الدنيا بأسرها بأنهم صانعوها وإن لم يجرؤوا حتى الآن على الزعم بأنهم اعدّوا لها او مهدوا لانطلاقها. ولا غرابة ان يكون الكذب هو الوسيلة المفضلة لدى هؤلاء الزعماء لخلق الاوهام في نفوس من يصدقونهم. هكذا فإنهم في الدفاع عن محمد مرسي يعمدون الى نشر اكاذيب عن منجزات لم يحققها، بل لم يحاول تحقيقها (مثل قول نائب المرشد العام الثري الامثل خيرت الشاطر إن شركة يابانية تقدمت بعرض قيمته عشرة مليارات من الدولارات للاستثمار في مصر. ويجد الشاطر في الاعلام الموالي خارج مصر كل دعم ومديح، وعلى سبيل المثال فإن مقدماً للبرامج في فضائية «الجزيرة» القطرية يصف تصريحات الشاطر بأنها «مهمة للغاية» وبأنها «مليئة بالمعلومات»!!). ولعل اكبر اكاذيبهم وأخطرها الزعم بأنهم لا يملكون ميليشيات مسلحة ومدربة.
غير أن أكاذيب «الإخوان المسلمين»، التي يريدون ان يكسبوا من ورائها مواقع السلطة السياسية، لم تنطل على جماهير الشعب المصري التي تتظاهر ضدهم في ميادين وشوارع مصر. ولهذا تبدو الجماهير المصرية في وضع افضل كثيراً – ولعلنا نقول اكثر يسارية ـ من وضع النخب السياسية والمثقفة التي تقود العمل السياسي والحزبي ضد الإخوان المسلمين. لقد اوضحت تطورات الأسبوعين الماضيين أن الجماهير المصرية التي تتظاهر ضد الإخوان هي التي صعّدت مواقفها الى نقطة المطالبة برحيل مرسي بترديد شعار «إرحل» الذي اطلقته الجماهير نفسها ضد الرئيس المخلوع مبارك وانتهى بالفعل الى رحيله عن السلطة وكل ما تبع ذلك.
ويبدو أن قادة «الإخوان»، ومنهم بشكل خاص الرئيس محمد مرسي، يصدقون أكاذيبهم، خاصة تلك التي تنسب ثورة «25 يناير» 2011 إليهم. وقد بلغ هذا حد الإعلان عن ان الثورة تتعرض لمحاولات السرقة من جانب الذين يقودون العمل السياسي ضد سياساتهم وأهدافهم. وهنا يظهر نوع فريد من الخلط بين الثورة والسلطة. وهذا هو نفسه الخلط بين القوى الثورية والمشتركين في ما يعتبرونه «التفاوض» معهم من اجل تسوية تبقيهم في مقاعد الحكم، وتبقي الآخرين في مقاعد الداعمين لهذه السلطة. وهذا الخلط لم يمنع من هم داخل السلطة ومن هم خارجها بأن يصفوا الثورة المستمرة في شوارع المدن المصرية بأنها «إجرام» (ورد هذا التعبير بالذات على لسان محمد بديع مرشد الجماعة في احدى مرات ظهوره على شاشات التلفزيون التي كثرت في الفترة الاخيرة).
وهنا لا بد أن نتساءل: أي ثورة حقيقية ومؤثرة في التاريخ لم تتهم من قبل النظام الذي تسعى لإسقاطه بأنها «مناورة»؟ هذا الوصف تناقلته ألسنة قادة «الإخوان» بمن فيهم «الرئيس» مرسي في الايام الأخيرة، في محاولة التدليل على ان ما يجري في شوارع مصر من انتفاضة ثورية ضدهم لا يعدو ان يكون افتراء على الشرعية وأن ما يفعله «الإخوان» هو على وجه التحديد «دفاع عن الشرعية». وقد تم كل هذا بينما كان «الإخوان» في السلطة يحاولون التظاهر بتقديم «تنازلات» لجر القادة السياسيين المناهضين لهم الى التفاوض او التنازل بالمقابل عن مواقف الجماهير المليونية. لقد وافق الدكتور مرسي على إلغاء البيان الدستوري الاول ليصدر بياناً دستورياً ثانياً لا يقل ضرراً بسلطة الجماهير، كما اقدم مرسي على تأجيل الاستفتاء على الدستور الذي كان قد تم تفصيله على قد السلطة الإخوانية. وبينما كاد السياسيون وزعماء الاحزاب والائتلافات ان يقعوا فريسة لهذه التنازلات الزائفة، بل كاد هؤلاء ان ينقسموا على انفسهم امام هذه «التنازلات» فإن جماهير الشعب الثورية رفضتها وأجبرت الزعماء السياسيين على ان يحذوا حذوها.
وليست هذه اخطر النقاط في تطور الازمة الراهنة في مصر. إن اخطرها بالفعل يتمثل في اقتراب مرسي والقوى الداعمة له الى الجيش المصري، الى القوات المسلحة المصرية واعتبارها نصيراً للسلطة. هكذا نرى بعد انقضاء 58 عاماً على هزيمة تنظيم الإخوان المسلمين امام جمال عبد الناصر في العام 1954، وبعد انقضاء 42 عاماً على رحيل القائد العربي العظيم، الإخوان المسلمين يقدمون على ممالأة القوات المسلحة المصرية لاتخاذ موقف مؤيد لاستمرارهم في السلطة ضد ارادة الجماهير الشعبية.
يبدو هنا بوضوح ان الرئيس مرسي لم يستطع ان يركن الى الاكتفاء بتأييد الولايات المتحدة له ولتنظيم «الإخوان» وسياساتهم. فالولايات المتحدة يمكن ان تسانده سياسياً أو اقتصادياً ولكنها لا تستطيع ان تسانده أمام الجماهير الشعبية التي تحاصر قصر الرئاسة. فهل لجأ الى الجيش لأي سبب آخر؟ إن بعض مصادر الاعلام الغربي لم يتردد في ان يعتبر ان لجوء مرسي الى الجيش هو تمهيد «لحملة قمع» واسعة النطاق ضد الجماهير الشعبية التي لم تتوقف تظاهراتها. وقد اسهمت القوات المسلحة المصرية بإصدار بيان يبدو للوهلة الاولى موحياً بحياد قادة هذه القوات بين مرسي والجماهير الشعبية. ولكنه عند التأمل يبدو موحياً بإمكان التدخل ضد الجماهير لمصلحة السلطة الإخوانية، وإن كان البيان نفسه يؤكد انحياز القوات المسلحة للشعب المصري.
إن ما لجأ اليه مرسي في مأزقه، الذي يبدو داخله مرتبكاً ومتردداً من إدخال القوات المسلحة المصرية لتكون عاملاً قادراً على الحسم لصالحه، ينطوي على احتمال مختلف تماماً في تكويناته، وهو احتمال ان تجد القوات المسلحة المصرية نفسها مضطرة ـ نكرر مضطرة ـ لأن تتدخل لصالح الجماهير الشعبية. فهذا هو الضمان الوحيد السليم إزاء وجود أخطار خارجية محدقة، أولها وأخطرها اسرائيل التي لا تني عن التصرف على نحو يشعر الجماهير المصرية بأنها تقف مع السلطة ولا يمكن بأي حال أن تقف مع ثورة تنطوي على احتمال إعادة الموقف المصري من العدو الاسرائيلي الى جذوره الصحيحة التي سادت إبان عهد عبد الناصر.
وهنا لا بد من إدراك حقيقة حسابات قادة القوات المسلحة المصرية، لا بد ان تأخذ في اعتبارها الموقف الأميركي من السلطة المصرية. إن الموقف الاميركي الذي لا يخفي تأييده لحكم الإخوان المسلمين في مصر، وفي غيرها من البلدان العربية، يمثل بالنسبة اليهم عنصراً بالغ الأهمية في تحديد خطوتهم التالية. ولا يخفى ان الولايات المتحدة بدورها تضع موقف القوات المسلحة المصرية في الاعتبار عندما تريد ان تتخذ قراراً حاسماً بشأن التطورات المصرية. وتعرف الولايات المتحدة جيداً ان تطورات مصر لا بد ان يكون لها تأثير كبير على تطورات المنطقة العربية وكل من بلدانها على حدة.
لا بد في الختام من ان نؤكد ان جماهير الشعب المصري اكتسبت في العامين الأخيرين خبرة هائلة تمكنها من ان تتخذ القرار الصحيح امام موقف يبدو بالغ التعقيد، القرار الذي يحسم التطورات لصالحها في حملة الجهاد ضدها.
كاتب سياسي ـ مصر