إيران صَفَعَت إسرائيل .. فَصَفَعَت إسرائيل السودان!
!
إنَّها ليست المرَّة الأولى التي يَضْرِب فيها سلاح الجو الإسرائيلي أهدافًا في داخل الأراضي السودانية؛ ورُبَّما لن تكون الأخيرة إذا ما بقي لدى إسرائيل من الأسباب ما يُغْريها بالإقدام على مزيدٍ من هذه الاعتداءات العسكرية والتي تَنُمُّ عن استسهالها اتِّخاذ أجواء السودان وأراضيه مسرحًا تُمثِّل على خشبته دور البطل (العسكري) الإقليمي، وهي التي (في ظَرْفها الانتخابي، والسياسي الداخلي، الدقيق) أبدت عجزًا (مزدوَجًا) عن إسقاط طائرة “حزب الله” التي من دون طيَّار قبل اختراقها مجالها الجوي، وعن (من ثمَّ) الضَّرْب عسكريًّا حيث ينبغي لها أنْ تَضْرِب، وبما يَرْدَع “مُرْسلي” تلك الطائرة عن تكرار “الفعل”.
هذه الطائرة الإيرانية أطلقها “حزب الله”، فنجحت، أيضًا، وعلى ما قالت طهران، في التقاط صُوَرٍ (هي الآن في حوزة إيران) لمواقع إسرائيلية ذات أهمية (عسكرية) إستراتيجية؛ وقد قالت طهران أيضًا إنَّها تملك طائرات من دون طيَّار أكثر تطوُّرًا من تلك التي أسقطتها إسرائيل بعد نجاحها، ولو جزئيًّا، في الاختراق والتصوير، وتستطيع (أيْ تلك الطائرات) حَمْل وإلقاء قنابل، وكأنَّها تريد أنْ تقول لإسرائيل إنَّ عليكَ أنْ تُضيفي الخشية من هذا النوع من السِّلاح الذي أملك إلى خشيتكَ من ترسانتي الصاروخية.
نتنياهو لم يَحْتَمِل هذا “الاستفزاز الإيراني الجديد” والذي جاء بعد فشله في حَمْل إدارة الرئيس الديمقراطي أوباما على معالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني بالوسائل العسكرية، فما كان منه إلاَّ أنْ أضاف هذا الاعتداء العسكري على السودان (الإيراني، على ما أوحى إلى العالم) إلى ما بدأه من اعتداءات جديدة (استيطانية وسياسية وتلمودية وعسكرية) على الفلسطينيين؛ لعلَّ هذا وذاك يَسْتُران “عورته”، والتي هي كناية عن فشله في “عسكرة” الحرب الاقتصادية على إيران (الآن) وعن عجزه عن التصدِّي لـ”الطائرة”، وعن الرَّد الانتقامي، أو الرَّدْعي، “المناسِب”.
إنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يُنْكِر أنَّ إيران تُزوِّد “حزب الله” وسوريا، في استمرار، والآن على وجه الخصوص، أسلحة وذخائر كثيرة ومتنوِّعة؛ لكنَّ من السذاجة (اللوجستية) بمكان تصوير السودان على أنَّه “مَصْنَع” لهذه الأسلحة والذخائر الإيرانية، أو “مَمَرٌّ” لها إلى “حزب الله” وسوريا؛ فالأراضي والأجواء العراقية ما زالت سالكة آمنة، وتفي بالغرض؛ أمَّا “تَورُّط” إيران في تسليح قطاع غزة فهو، ولجهة حجمه، أقرب إلى “الحبَّة” منه إلى “القُبَّة”؛ ثمَّ أنَّ “مُهرِّبي السلاح” في سيناء يَفُون بالغرض، وإنْ كان هذا لا ينفي حصول “القطاع” على أسلحة وذخائر (بعضها قد يكون إيرانيًّا) من طريق السودان.
في هذه الضربة الجوية الإسرائيلية لمصنع عسكري سوداني تَكْمُن “رسالة إسرائيلية” إلى إيران؛ لكنَّ هذه “الرسالة” لن تَفْهَم إيران معانيها كما تريد لها إسرائيل أنْ تفهمها؛ فإذا كان قَطْع هذه المسافة الجوية الطويلة يمكن أنْ يُفْهَم على أنَّه دليل عملي على أنَّ إسرائيل تستطيع الوصول بسلاحها الجوي إلى عُمْق الأراضي الإيرانية فإنَّ “النتيجة” في إيران لن تكون كـ”النتيجة” في السودان؛ فالفَرْق في قوى ووسائل التصدِّي والرَّد بين السودان وإيران يَمْنَع “النتيجتين” من أنْ تتماثلا أو تتشابها.
وحتى هذا “الوصول” يَعُوزه الدليل والإثبات؛ وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نتأكَّد “المكان” الذي منه انطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية؛ فرُبَّما كان “مكانًا” بعيدًا عن إسرائيل، قريبًا من السودان.
ومن وجهة نظر ما يَحْدُث في سوريا، يمكننا أنْ نرى في “الفعل”، والذي هو “الطائرة الإيرانية”، ما يعود بشيءٍ من الفائدة على إيران و”حزب الله”؛ كما يمكننا أنْ نرى في “ردِّ الفعل”، والذي هو “الضربة الجوية الإسرائيلية للمصنع العسكري السوداني (وكما صُوِّرت إسرائيليًّا)”، ما يعود بشيء من الفائدة (الانتخابية) على نتنياهو، وبشيء من الفائدة (الشعبية) على الحكومة السودانية التي بدت ضحية عدوان شنَّه عليها العدوِّ القومي الأوَّل للعرب، وهو إسرائيل.
لكن ثمَّة عواقب محتملة رُبَّما لا تَنْزِل بَرْدًا وسلامًا على العدوِّ الإسرائيلي إذا ما تحقَّقت؛ فإيران والسودان يمكن أنْ تؤسِّسا لعلاقة عسكرية إستراتيجية جديدة بينهما، تشتمل على وجود عسكري بحري إيراني في المياه الإقليمية للسودان، مع ما يمكن أنْ يتسبَّب به هذا الوجود من مشاكل للملاحة البحرية الإسرائيلية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر (ويجب ألاَّ ننسى، في هذا الصدد، ما تتمتَّع به إيران من نفوذ في أجزاء من اليمن قريبة من مضيق باب المندب).
ومع إضافة هذا المضيق إلى مضيق هرمز، تَكْتَسِب إيران مزيدًا من القوَّة الإستراتيجية الإقليمية، مع عدم إغفال سعيها إلى أنْ تؤسِّس لها وجودًا عسكريًّا في موانئ سوريَّة (طرطوس مثلًا).
وأحسبُ أنَّ “مصر الجديدة” لن تكون غير مكترثة لعواقب هذا التنافس العسكري البحري بين إيران وإسرائيل في البحر الأحمر (والقرن الإفريقي على وجه العموم).
جواد البشيتي