العدوان الاسرائيلي على السودان ” في الدلالات و العبر
في لحظة انشغال دولي واقليمي وعربي بما يجري في سورية من عدوان عليها يهدف الى قتل شعبها بيد ارهابية وتدمير كيانها بقرار اميركي وبتنفيذ من بعض من يدعي عروبة او ينتحل صفة إسلامية، في لحظة الانشغال هذه، اغارت «إسرائيل» بطيرانها الحربي على مصنع في السودان ادعت أنه للتصنيع الحربي، فدمرته بصواريخ حملتها طائراتها التي قطعت مسافة تتعدى الـ 1800 كلم، مخترقة الأجواء والمجالات العملية للرادارات السعودية والمصرية وطبعا السودانية، ثم عادت الطائرات بعد تنفيذ مهمتها، بسلام الى الارض المحتلة، وسكت المجتمع الدولي – حسب تسمية الغرب – ولم يحرك ساكناً، اما من بادر واتصل بـ»إسرائيل» فقد كان اتصاله لتوجيه التهاني لها بنجاح المهمة، وسلامة العودة وإظهار الاغتباط بالقدرات «الاسرائيلية» في العمل الميداني.
لقد ذكّرت الغارة «الاسرائيلية» على السودان بالغارة المماثلة التي شنتها «إسرائيل» قبل ثلاثة عقود ودمرت خلالها المفاعل النووي العراقي في أقل من 5 دقائق، وخرج العالم الغربي يومها يصفق لـ»إسرائيل» حارسة المصالح الغربية، وطبعاً لم يتحرك العرب للاستنكار ولم يجتمع مجلس الأمن لإدانة العدوان على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، بل تعامل ما يسمى «المجتمع الدولي « مع الشأن وكأن «إسرائيل» مارست حقاً مشروعاً وثابتاً لها بالأصالة عن نفسها والنيابة عن الغرب، وهو حق تأديب كل من يخرج عن القرار الغربي ويحاول امتلاك القوة مهما كانت هذه القوة، لأن النظام العالمي الذي ارسي بعد الحرب الثانية وتبلور بالمعسكرين الشيوعي والرأسمالي، يمنع أياً كان خارج هذين المعسكرين من امتلاك قوة لا تكون مفاتيحها بيد أحد المعسكرين، وبعد انهيار المعسكر الشيوعي، حصرت المفاتيح كلها بيد الغرب بقيادة أميركية.
«إسرائيل» دمرت في العراق ولم تخش رداً من أحداً ولم تستأذن أحد ولم تهول ولم تنذر، بل نفذت الأمر بما يطابق قواعد العمل العسكري المستجيب لعنصر السرية والمفاجأة، وكررت الأمر نفسه وبالقواعد ذاتها في السودان من غير أي تبديل في قواعد السلوك. لقد فعلت «إسرائيل» ذلك لأنها كانت ولا زالت مطمئنة الى أن أحداً لن يرد عليها بالمثل، فلا شرعية دولية ستتحرك ضدها فهي أصلاً لا تقيم وزناً لهذه الشرعية والكل يعلم كم هي القرارات الدولية التي صدرت ضد «إسرائيل» ولم تنفذ حتى أن ساسة «إسرائيل» لم يبذلوا جهداً في قراءتها، ولا قدرات عسكرية لدى الفريق المعتدى عليه تمكنه من ايلام «إسرائيل» برد مماثل، حيث ان أحداً ممن اعتدي عليه لا يملك قوة تردع «إسرائيل» عن العدوان.
هذا في اتجاه، أما في المقابل فإن «إسرائيل» نفسها، ومع الطبيعة الإستعلائية والذهنية العدوانية ذاتها امتنعت حتى الآن عن القيام بعمل عسكري مماثل ضد إيران وضد منشآت نووية فيها تدعي «إسرائيل» والعرب معها أنها مفاعلات ذرية تحضر لتصنيع قنبلة نووية، وأنها باتت على مسافة أشهر لا تتعدى العام الواحد من إنجاز هذه القنبلة. ثم تروج «إسرائيل» بأن امتلاك طهران للقنبلة النووية، ومع السياسة الثابتة لإيران ضد «إسرائيل» التي مرتكزها أن «إسرائيل» غدة سرطانية وكائن سياسي غير طبيعي وغير مشروع يجب اجتثاثه والتخلص من شره المفسد للمنطقة والعالم، وبالتالي ستكون أي قوة لإيران موجهة من حيث المبدأ ضد «إسرائيل» وتعرض وجودها للخطر، وأن القنبلة النووية ستكسر والى الابد التفوق الاستراتيجي الذي تعمل أميركا لابقاء «إسرائيل» فيه في مواجهة كل اعدائها وخصومها. وبالتالي تكون مسألة القنبلة النووية تلك وبالمفهوم «الإسرائيلي» تشكل مسألة حياة او موت لـ»إسرائيل»، ورغم كل ذلك أحجمت «إسرائيل» حتى الان وستستمر في احجامها عن اللجوء الى المألوف المعتاد من السلوك لديها ضد كل ما تصوره خطر او خروجاً عن القواعد الغربية الاستعمارية بشأن امتلاك القوة، فامتنعت عن تنفيذ عدوان على إيران وأحجمت عن تدمير مفاعلاتها النووية التي هي بنظرها على ذاك القدر من الخطورة.
لقد اختارت «إسرائيل» في مواجهة ما تتصوره او تدعيه من خطر متشكل عن سعي ايراني مزعوم لامتلاك القنبلة الذرية، اختارت ان تلجأ الى الصخب والضجيج وشن حرب نفسية للتهويل على العالم بالخطر الايراني النووي، كما أنها لم تترك فرصة، الا واستغلتها لدفع الغرب الى السير في مسار عقوبات ضد إيران بشكل ظالم وغير شرعي، لكنها لم تلجأ الى الخيار العسكري رغم انها لا تترك يوما يمر الا وتهدد باللجوء اليه.
والاحجام عن الخيار العسكري لم تنفرد به «إسرائيل» وحدها بل وإنه سلوك انسحب على أميركا واروبا منفردين او في اطار الحلف الاطلسي «الناتو»، كما أنه لم يقتصر على الملف النووي الإيراني فقط بل إنه شمل الموقف من سورية ومن الأزمة التي أحدثتها الحرب الكونية التي أطلقتها أميركا ضد هذا الركن من اركان محور المقاومة في الشرق الاوسط. حيث ان الغرب بقضه وقضيضه، ومع كل اتباعه واذنابه من مستعربين او متأسلمين، ورغم صراخه وتهويله، لم يبادر للتدخل في سورية عسكريا بإرسال جيوشه البرية لاحتلالها على الطريقة العراقية او الافغانية، كما انه لم يرسل طيرانه لقصفها وتدميرها على الطريقة الليبية، واكتفى بإرسال العصابات الإرهابية التي حاول ان ينظمها في جيوش وألوية تحمل أسماء وصفات إسلامية – وطبعاً بقي الإسلام منها براء، لأن الصفة تكتسب بالسلوك وليس من اسم يكون السلوك خلاف معانيه كما هو حال عصابات الإجرام والقتل في سورية الآن – عصابات بات الغرب مقتنعا بأنها فشلت في تحقيق ما يريد في سورية وعجزت عن اقامة النظام التابع للاستعمار الغربي الصهيوني، وانها لا تعدو كونها عصابات ستتآكل ويتم اجتثاثها تباعا حتى ولو طال الوقت بعض الشيء، لأن انتصارها في الميدان السوري بات امرا مستحيلاً، ورغم كل ذلك لم يبادر الغرب لنجدتها بشن الحرب.
وحتى نكمل الصورة لا بد من العودة الى موقف «إسرائيل» من حزب الله ومقاومته التي نظمها وحققت على «إسرائيل» الانتصار تلو الانتصار سواء في ميدان المواجهة المباشرة، او بقدرات النار الحارقة أو بالتقنية العلمية المتقدمة والتي كانت طائرة الاستطلاع ايوب آخرها – وليست الاخيرة ً – فـ»إسرائيل» تهول وتقول إن سلاح حزب الله يشكل خطرا عليها، وأن الحزب بات يمتلك من القوة ما لا يمتلكه 90% من دول العالم وان الحزب كذا وكذا… ومع ذلك تمتنع «إسرائيل» عن الحرب ضده وتقف في الميدان مغلولة الأيدي عن تنفيذ قرار الحرب عليه وهو قرار متخذ منذ 14 آب 2006 ولكنه معطل التنفيذ.
في العراق والسودان بادرت «إسرائيل» الى العدوان ودمرت ما شاءت أن تدمر ولم تعبأ بأحد ولم يسائلها احد، اما في ايران وسورية ولبنان، فإن «إسرائيل» تصرخ، تهدد، تعول، تهول، ولكنها لا تجرؤ على الذهاب الى الحرب، وهنا يكون السؤال لماذا الاختلاف في السلوك والتصرف مع التماثل في الأخطار المدعاة لا بل إن الحقيقة تظهر أن الأخطار المزعومة التي مصدرها إيران وسورية ولبنان، أكبر بكثير مما كان يزعم من العراق يومها او السودان الآن حتى أنه لا يجوز القياس اصلاً.
الجواب بكل بساطة، إنها القوة، قوة الردع التي امتلكها محور المقاومة، قوة فرضت التغيير في السلوك لانها جعلت اي عدوان مكلف النتائج وانه سيستدعي ردة فعل لا تستطيع «إسرائيل» احتمالها، حيث ان «إسرائيل» تعلم ان اي صاروخ سيسقط من قبلها على ركن من أركان محور المقاومة سيكون بمثابة استدعاء لمئات بل آلاف الصوريخ التي ستزرع في كل أنحاء فلسطين المحتلة، وستشعل ناراً فيها قد لا تنطفئ الا بعد تغيير جذري في المشهد السياسي العام في المنطقة، مشهد قد لا يكون فيه لـ»إسرائيل» صوت يسمع.
الخوف على الذات، كما الخوف على المصالح منع «إسرائيل» ومنع الغرب بالقيادة الاميركية من اللجوء الى القوة ضد محور المقاومة، بينما كانت الطمأنينة الى ضعف الخصم وعدم قدرته على الرد هو من اغرى «إسرائيل» على العدوان على العراق والسودان، كما اغرى الاطلسي بتدمير افغانستان والعراق وليبيا ، وبعد هذا نتساءل عن سلوك فريق شهوة السلطة في لبنان وموقفه من سلاح المقاومة، وهل يدرك أن طلبه بنزع سلاح المقاومة يعني استدعاء «إسرائيل» للإعتداء على لبنان والتحكم بمصيره وتنصيب رؤسائه كما فعلت في العام 1982، أم أن شهوة السلطة اعمت بصره فبات يدب على غير هدى… وينتحر؟…
اما المقاومة ومحورها فهما ثابتان على سلاح دفاعي فاعل جعل قوة «إسرائيل» عاجزة، ولن تعود عقارب الساعة الى الوراء وليطمئن الشرفاء الى القوة التي تحمي لبنان، قوة الجيش والمقاومة المنبثقين من شعب يريد العزة والسيادة الحقيقية