دلالات انعكاسات اقتراب العراق من روسيا
يبدو أن خسائر واشنطن في المنطقة لا تتوقف، رغم محاولاتها الدؤوبة للحد منها، وسعها لاستعادة زمام سيطرتها المتداعية، ومنع حصول المزيد من التحولات في غير مصلحتها، بعد خروج قواتها مهزومة من العراق، لعدم قدرتها على تحمل حرب الاستنزاف التي كانت تتعرض لها، بفعل المقاومة العراقية المسلحة، التي نجحت في الحاق خسائر كبيرة في صفوفها وزيادة الكلفة المادية لاحتلالها.
ففي ظل الجهود التي تبذلها الادارة الأميركية لمنع العراق من الخروج من كنف استراتيجيتها في المنطقة، جاء حدث اقدام رئيس الوزراء العراقي نور المالكي على توقيع صفقة السلاح الضخمة بين العراق وروسيا بقيمة 4,2 مليار دولار، تزود موسكو بموجبها بغداد باسلحة حديثة متطورة، امتنعت واشنطن عن اعطائها له، وشملت طائرات حربية، ومروحيات ودبابات، ومنظومة دفاع جوي، إلى جانب توقيع اتفاقات للتعاون المشترك في مجالات الطاقة والغاز والنفط.
ومثل هذا الحدث، غير السار بالنسبة للمسؤولين الأميركيين، احتل صدارة الأخبار والتعليقات في وسائل الاعلام العربية والدولية، شكل، بنظر المراقبين، تحولا نوعيا في الموقف العراقي انعكس مباشرة على الصراع الدائر في المنطقة وعلى خارطة علاقات التحالف فيها ، وتجسد هذا التحول في المواقف العراقية والروسية التي رافقت توقيع الصفقة،التي عكست هذا التحول.
وتمثلت هذه المواقف، التي أعلنها كل من الرئيس الروسي بوتين، ورئيس الوزراء العراقي نور المالكي، باتفاق وجهات النظر بينهما على حل الأزمة في سورية بعيداً عن التدخل الخارجي، وفي الهجوم العنيف الذي شنه المالكي ضد سياسة الحكومة التركية متهما اياها بانها» تتصرف بوقاحة كما لو كانت مسؤولة من تلقاء نفسها عن تسوية المشكلات في سورية بدلاً من الشعب السوري» معتبراُ أن ذلك يهدف لاقحام الناتو في الشؤون السورية «الخطر الذي قد يشعل المنطقة برمتها».
العوامل الدافعة لهذا التحول في الموقف العراقي
إن هذا التحول في موقف العراق بالعودة إلى الاعتماد على السلاح الروسي، واتخاذ المواقف الحادة من تركيا، ورفض التدخل الخارجي في سورية ما كان ليحصل لولا العديد من العوامل أبرزها:
العامل الأول: المعارضة الداخلية القوية، سياسياً وشعبياً، للسياسة الأميركية والداعية إلى تحرير العراق من التبعية لواشنطن، والتي تعززت بعد نجاح المقاومة العراقية بالحاق الهزيمة بقوات الاحتلال الأميركي وإجبارها على الرحيل عن أرض العراق ومنع التمديد لها، وهو ما عبرت عنه التظاهرات الشعبية والمواقف السياسية مؤخراً.
العامل الثاني: سياسة الابتزاز الأميركي للعراق التي تجسدت في ربط واشنطن إتمام صفقة بيع العراق طائرات أف 16 بموافقة بغداد على عدم التقارب مع إيران، ولأن المالكي رفض ذلك أقدمت واشنطن على المماطلة بتسليم العراق طائرات أف 16 وعمدت الى تغذية التناقضات داخل العراق، وعقد صفقة أسلحة مع حليفها رئيس إقليم كردستان في شمال العراق مسعود البرزاني، تزوده بموجبها بطائرات مروحية نوع أباتشي، في مؤشر على توجه أميركا لتقوية حلفائها، والعمل على إضعاف الدولة المركزية ومنعها من امتلاك عناصر القوة لفرض سلطتها طالما استمرت في سياسة الخروج على الانتظام في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
العامل الثالث: التدخل التركي المتزايد في شؤون العراق الداخلية بالتنسيق مع واشنطن في سياق العمل على تعزيز الروابط مع إقليم كردستان على حساب الدولة المركزية، والذي تمثل بزيارة وزير الخارجية التركي احمد داوود أوغلو الى أربيل من دون اخذ أذن وزارة الخارجية العراقية، وتوقيع اتفاقات تعاون في مجال النفط، وفي العمل على توفير الحماية لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي المحكوم بالإعدام بتهمة ارتكاب جرائم إرهابية، الأمر الذي شكل استفزازا لحكومة المالكي أشعرها بوجود مخطط لتقويض استقرار العراق ترافق مع استمرار التفجيرات الإرهابية في المدن العراقية. العامل الرابع: تنامي قوة إيران ونجاحها في إحباط المخطط الأميركي الصهيوني الغربي للنيل من حقها في تطوير برنامجها النووي السلمي، وتلاشي أحلام «إسرائيل» بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، إلى جانب ثقل إيران ودورها في دفع حكومة المالكي للابتعاد عن أميركا وتعزيز علاقاتها مع روسيا.
ان هذه العوامل هي التي دفعت حكومة المالكي إلى تنويع مصادر تسلحها وانتهاج سياسة خارجية جديدة مسقلة بعيدة عن الارتباط بالولايات المتحدة الأميركية.
دلالات ابتعاد العراق عن واشنطن واقترابه من روسيا
من دون شك ان ابتعاد العراق عن واشنطن وعودته إلى الاقتراب من روسيا، ونسج العلاقات معها في هذا التوقيت بالذات يعكس دلالات عديدة أهمها:
الدلالة الأولى: سلوك العراق طريق التحرر من قيود التبعية للسياسة الأميركية التي فرضت مع الاحتلال الأميركي للعراق، يؤكد تراجع هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، وأن أحادية السيطرة الأميركية على العالم أصبحت من الماضي، ولم يعد بالإمكان إحيائها.
الدلالة الثانية: عودة تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة على حساب النفوذ الأميركي الذي تجسد إلى جانب صفقة السلاح بعودة شركات النفط والطاقة الروسية للاستثمار في العراق، الأمر الذي يدلل على المزيد من فشل أهداف الحرب الأميركية في العراق التي سعت إلى أخراج روسيا منه، الأمر الذي يؤشر الى حجم الفشل الذي منيت به الحرب الأميركية على العراق التي استهدفت الحاق العراق بمنظومة الهيمنة الاستعمارية للولايات المتحدة، واحتكار عملية استخراج وتسويق النفط العراق الأقل كلفة، فاذا بها تنتهي بعودة العراق الى توطيد علاقاته مع روسيا المنافس الدولي القوي لأميركا.
الدلالة الثالثة: اصطفاف العراق إلى جانب المحور الروسي، الإيراني، في مواجهة الحلف الغربي التركي، والذي عبر عنه بقرار العراق تنويع مصادر تسليحه وسلوك طريق الخروج من دائرة التبعية لأميركا وانتهاج سياسة خارجية مستقلة غير مقيدة بشروط واشنطن. إن التحول في الموقف العراقي يشكل ضربة موجعة للسياسة الاميركية في هذا التوقيت الذي تسعى فيه واشنطن بكل طاقاتها وجهودها لاعادة تعويم مشروعها الشرق الأوسطي المتداعي، مما يعبر عن أصالة الظرف الموضوعي المتجسد في التحولات الحاصلة في موازين القوى في المنطقة، وعلى الصعيد الدولي في صالح قوى المقاومة والممانعة، والدول الساعية إلى إقامة نظام دولي إقليمي يقوم على التعددية القطبية بعيداً عن هيمنة القطب الأوحد.
فمن المعروف أن صفقة السلاح التشيكية التي عقدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الخمسينات من القرن الماضي، شكلت في حينه نقطة تحول في السياسة المصرية، واعتبرت بداية التبدل في علاقات مصر الدولية التي دشنت القطيعة مع الغرب لصالح الاقتراب وبدء مرحلة توطيد العلاقات مع دول المعسكر السوفياتي.
وكان لافتا استخدام المالكي عبارات حرص فيها على تأكيد استقلالية قراره عندما قال ان العراق لا يتشاور مع أي كان في الشؤون السياسية، وأنه لا يستشير واشنطن في شرائه للأسلحة من موسكو.
انعكاسات التبدل في الموقف العراقي
من دون شك أن التبدل في موقف العراق وعودته للعب دور مؤثر وفاعل ستكون له تداعيات مباشرة على واقع الأحداث في المنطقة لما للعراق من ثقل مهم بسبب موقعه الجغرافي، وامتلاكه ثروة نفطية كبيرة.
واهم هذه الانعكاسات:
1 ـ تعزيز موازين القوى التي تصب في صالح دول وقوى المقاومة والممانعة للاحتلال الصهيوني والمشروع الأميركي الغربي الاستعماري في المنطقة .
2 ـ زيادة حضور وتأثير السياسة الروسية في المنطقة وعلى المسرح الدولي واستطراداً تعزيز دورها في معالجة ملفات المنطقة الساخنة.
3 ـ اضعاف هيبة ونفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.
4ـ ضربة موجعة لجهود الكيان الصهيوني الذي سعى من وراء دفع واشنطن لغزو العراق الى منع هذا البلد العربي، الذي يمتلك القدرات البشرية والثروات النفطية الكبيرة، من استعادة عافيته وقوته، الأمر الذي يؤشر الى فشل الهدف الأساسي من هذه الحرب الأميركية الصهيونية التي تعرض لها العراق، ولا يزال يعاني من آثارها.