ما بين عمود الخيمة وسقفها
كلما إتسع منظور الإنسان، وتخلّق بخلق اللين والسماحة، كلما تعمقت إنسانيته، والعكس صحيح.. إتساع المنظور، يعني إتساع المعرفة وتعمقها، ومغادرة العزلة التي هي صنو التخلف ، عندئذ يصبح لدى واسع الأفق والمنظور إقتراب لحد التماثل مع القول المشهور للإمام الصادق على رأي البعض، وللأمام الشافعي على رأي البعض الآخر( صوابي يحتمل الخطأ، وخطأك يحتمل الصواب) .
ضيق الأفق الذي هو نتاج العزلة، يؤدي إلى الإنغلاق والتقوقع على الذات أو الجماعه، وعدم رؤية الآخر، أو رؤيته بعين رمداء. بعض الناس يحبس نفسه في إطار ضيّق من عصبيّة قبليّة، أو طائفيّة، أو عنصرية، أو مناطقيّة، أو حزبيّة، فلا يستطيع رؤية الغير، ولا معرفتهم على حقيقتهم، وبالتالي لا يستطيع ولا يقدر على التعامل معهم، إلا من باب الآخر، الغير، المختلف.
العزلة دليل التخلف، والخوف، والضعف، وعدم الثقة بالنفس، أو الجماعة، والإنفتاح دليل قوّة.. الإنفتاح الذي نعنيه، ليس الإنفتاح الساداتي، وإنما الإنفتاح وفق مفهوم غاندي ( دع الشبابيك مفتوحة، ولكن إحذر أن تقتلعك الريح من جذورك) . كم في حياتنا من مفاهيم نعتقد بصوابها، وهي ليست كذلك؟، من ذلك قول بعضنا أننا نموت من أجل المباديء!!
يكذبون علينا عندما يتاجرون بهذا القول.. الناس تموت من أجل مصالحها، ومنافعها، وتكافح من أجل هذا، ولكن بأردية مختلفة .. لو لم يكن في المبدأ مصلحة لي، ولعصبتي، لما إهتممت به، ولما دافعت عنه، وكل المباديء الخيّرة، وفي مقدمتها الأديان، تتضمن مصالح الفرد والجماعة، لذا فإن الدفاع عنها إنما هو في الحقيقة دفاع عن مصالح الإنسان والشعوب، بمعنى أنك عندما تدافع عن الأديان فإنك تدافع عن الإنسان.
القضيّة الجوهرية هنا تكمن في كيفيّة معرفة هذا؟
في كيفيّة التمييز بين عمود الخيمة، وسقف الخيمة، وفي معرفة أن عمود الخيمة ليس هو الذي يحمينا من حر الشمس والبرد والمطر، وإنما سقف الخيمة الذي خُصصت الأعمدة لرفعه، الأعمدة هنا وسيلة، أما سقف الخيمة فغاية.
ربما تكون هذه بدهية شديدة الوضوح، ولكن كم هم أولئك الذين يدركونها، ويتصرفون على هديها ؟! هل يمكن لإنسان جاهل، منعزل، مُتخلف، لاحظ له من الثقافة، ولا دراية له بالآخرين وشؤونهم ومعارفهم، وغير قادر على التمييز بين الحق وغيره، الخير وغيره، الجمال وغيره، أن يتوصل إلى معرفة جوهر الأشياء، وأن يتخذ موقفاً سليماً منها؟ من تُراه مُستعداً لقتل نفسه، وقتل الآخرين، الذين لا يعرفهم، وتدمير الحياة، سوى معطوب العقل، أو المُبرمج؟ كيف يمكن مثلاً لإنسان سوي الإقتناع بإنه إن قتل عشرة أبرياء سيتناول الغداء مع رسول الرحمة، وإذا قتل أكثر، ربما يتناول معه الوجبات الثلاث ؟!!
ثم أين العدل في ذهاب إنسان إلى الجنة، لمجرد أنه قتل عشرة أو عشرين من خلق الله الأبرياء، بحجة أن الله أحل الذبح!!، ويذهب عالم خدم خلق الله، وعمّر الأرض إلى النار؟! هل الجنة مأوى لمعطوبي العقل، والمُتخلفين، وجزازي الرؤوس؟!
وأخيراً من هم الذين سيكونون حواريو نبي الرحمة في الآخرة، الصالحون، الرحماء، العارفون، الهادون، المهديون، المتواضعون، السمحون، أم غلاظ القلوب، الأجلاف، القساة، القتلة، مُجتزي الرؤوس دون أن يرمش لهم جفن، المُحرفون لما أحل الله؟! الجاهل يُسيء، ربما من حيث يظن أنه ينفع، العارف لا يسيء إلا وهو عارف أنه يُسيء، لذا فإن جرم العارف أشد، ومسؤوليته أكبر ..
لذا فإن المجرم الحقيقي ليس ذاك الذي فجرّ نفسه في مدرسة أو مستشفى، أو سوق، ونثر اللحم البشري مع التراب والحجر، فهو قد تناثر لحمه، وما عاد بمقدور أحد تمييز لحمه عن لحم سواه، وإنما ذاك الذي رسم وخطط، وأعدّ، ودرّب، وسوّغ، وأفتى، وسهّل، أو حال دون منع هؤلاء عن أفعالهم، أو عرقل محاسبتهم والقصاص منهم. الإنسان بشكل عام ، والمثقف بشكل خاص ، ليس له خيار، وليس من حقه إتخاذ موقف الحياد عندما يتعلق الأمر بحق الناس الفطري والطبيعي بالحياة ، وحقهم الذي لا جدال فيه في أتخاذهم للموقف الذي يرونه مناسباً لهم .. ليس المهم أن أعترف أنا أو أنت بصواب هذا الموقف أو خطأه، فأنا وأنت ليس هم ، وأذا كان من حقي ومن حقك تبيان وإيضاح الموقف الذي أراه أو تراه أصوب وأسلم ، فإن ليس من حق أحد إجبار أحد على أتخاذ موقف ما ، أو الإيمان بموقف ما ، من يؤمن بأن من حقه فعل وعمل هذا يضع نفسه بمواجهة أقدس وأنبل هدف إنساني ، ألا وهو “الحرية “، تلك القيمة العليا التي دعت إليها كل الشرائع والأديان السماوية ، وناضل وكافح من أجلها مليارات البشر عبر مراحل التأريخ كلها.. من يُهادن في قضية الحرية ، يُهادن في قضية الإنسان ذاته، عندما تسلب من الإنسان حرية الإختيار تجعله أقرب إلى البهيمة منه إلى البشر.
أي بشر هؤلاء الذين يجتزون رؤوس الناس لأنهم يختلفون معهم في المذهب أو الرأي أو المعتقد؟ ،
وأي عالم سنعيش في جحيمه لو تسيّد أمثال هؤلاء المتخلفون، المنغلقون؟، لا شيء يبيح قتل النفس البريئة ، ولا التضييق عليها في العيش ، ولا التقليل من شأنها.
لا حياة ولا كرامة لنا من دونما حرية ، وعندما يتحوّل الدعاة من مجادلين بالحسنى وداعين باللين، إلى قتلة ومدمرين للحياة ، يصبح الوقوف بوجههم واجباً دينياً ، وإنسانياً، وأخلاقياً ، ويصبح الحياد شكلاً من أشكال التواطؤ البغيض، فأي مثقف يتحمل ذل وعار الصمت ؟!