تطرح العودة الدورية للولاءات الطائفية والمذهبية والقبلية في لبنان إشكاليات معقدة، لعل أهمها، كيف يمكن الانتقال من الجماعات المتناحرة الى المجتمع المضمن؟ قد يكون من المهم الكشف عن دلالة التضمين السياسي، كمصطلح غربي المنشأ قبل محاولة الإجابة عمّا نقصده بـ«المجتمع المضمن».
لا يتخذ معنى التضمين بعداً دلالياً واحداً، إذ إنه متعدد لناحية اختلاف المفاهيم والسياقات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لكنه في المرتبة الأولى يتجانس ويتزاوج وظيفيا وعلائقيا مع المواطنة. ويُعرف الباحث الأميركي مارك روث في أطروحته «ثقافة التضمين والصراع الإثني» هذا المفهوم بقوله: «هو الوسيلة لدعم التسامح وقبول الآخر والحصول على الحقوق، ولن يكون مفعلاً إلا بمشاركة الدولة والمجتمع»؛ فيما ترى حنة أرندت أن هذا المفهوم يعني الحق في التمتع بالحقوق، ويذهب الفيلسوف البريطاني إيزيا برلين الى القول «إن التضمين لا يتحقق بالمواطنة فقط، ولكن الأهم هو الشعور بالانتماء والهوية حتى لمن يعاني التهميش داخل المجتمع» بمعنى آخر تمركز الانتماء الوطني وإن شعرت بعض الجماعات الدينية أو الإثنيات بهدر لحقوقها، فهذا لا يلغي الهوية الوطنية الجامعة، ولا ينفي أيضاً إمكان التفاعل مع الآخرين رغم ما تعانيه من إقصاء ولو جزئياً. بهذا المعنى يصبح التضمين السياسي، أحد أهم المرتكزات القادرة على بناء الدولة الحاضنة، أي تلك الدولة التي تنهض بكل شروط المواطنة الحقة، لخلق مجتمع متصالح مع ذاته، انطلاقاً من احتواء الاختلافات وتكثيف تفاعل الأفراد والجماعات، وهذه العملية تقتضي العمل من الأسفل الى الأعلى كما خلص أحد الباحثين الغربيين؛ وفي سبيل تقليص الفجوات الاستلابية، فهذه المسألة تتطلب تكريس المواطنة والاعتراف بالآخر بغية توطيد ما اصطلح على تسميته علماء الاجتماع الغربيون بـ«المجتمع المضمن».
والحال كيف يمكن تغليب ثقافة التضمين السياسي على ثقافة الولاءات الطائفية والمناطقية والعشائرية في لبنان من أجل محاولة النهوض بالمجتمع المضمن؟ لا ندعي امتلاك الجواب في هذه المقالة القصيرة، إذ يحتاج الى دراسات علمية، تأخذ في المرتبة الأولى البعد السوسيولوجي (الميداني والاستطلاعي)، في سبيل الكشف عن نقطة محورية تتعلق برؤية الطوائف اللبنانية بعضها لبعض من جهة، والتحقق من درجة المكاشفة في ما بينها، خصوصاً أن لبنان، رغم أن البعض قد يرى مبالغة في خلاصتنا، يختصر العالم على مستوى التعددية الدينية، ويقدم أنموذجاً للبيئات المؤهلة للتعايش، وإن اتجهت في تاريخها الطويل والمديد الى التقلص والانكماش لأسباب مختلفة، لا يشكل المعيار الديني سببها الرئيس.
الثابت في الاحتقان الذي شهده ويشهده لبنان في الأمس واليوم، سيطرة الطائفية وظهور الولاءات الدينية والقبلية، لا سيما في مرحلة الأزمات، وهذا الاحتقان المصحوب بالتوتر المذهبي يُعيد الى الأذهان ذاكرة الحروب، ويبرهن على أزمة بناء الدولة الحديثة، ما يجعل اللبنانيين يغلبون انتماءهم الديني/ المناطقي على الانتماء للدولة، فتتحصن كل طائفة خلف قياداتها، وتخلق بذلك ثقافة تهميشية/ احتكارية، لأنها تعتمد على مرجعيتها الدينية أولاً وتطالب بحقوقها عبر العنف الرمزي والعنف المباشر ثانياً؛ وعلى هذه القاعدة تعود الجماعات الى ولاءاتها القبلية، ما قبل الدولتية، ما يؤدي الى تفكيك بنى الدولة (وهي بحدها الأدنى) التي تحولت بدورها الى سلطة ناقصة، تبحث دائماً عن شرعية مفقودة، لا تجدها إلا عبر أمراء الحرب والطوائف.
التضمين السياسي يعني في المرتبة الأولى تدعيم ثقافة التمدين والمواطنة لدى كل الأفراد والجماعات، وهذا يتطلب احتواء الطوائف اللبنانية ودمجها في هوية وطنية جامعة، أي إبعادها عن الانتماءات المناطقية والمذهبية والدينية ونقلها من الطوائفية المتحاربة (حرب الكل على الكل) الى الأمة المندمجة.
لا شك بأن المعضلات التاريخية التي أفرزتها الحرب الأهلية (1975) تبين هشاشة الدعائم التي تقوم عليها الدولة، رهينة الطوائف، والمرتهنة بدورها لزعامات طائفية/ وراثية في ظل حكم من المفترض أن يكون تداولياً في الجمهورية اللبنانية، لكن إحياء الإقطاع السياسي برموزه، أدى الى وأد كل محاولات التحديث (التحديث يفترض ولادة نخبة سياسية جديدة تنهض بهموم المواطن ومشاكله تتعامل مع الجميع على أسس دولة القانون) التي عمل عليها قلة من رجال الدولة في لبنان، وهذا الإقطاع يؤشر الى ديكتاتورية من نوع آخر، ونقصد استبداد الزعامات الطائفية، ما يجعل الديموقراطية التي يتغنى بها اللبنانيون، ديموقراطية تغالبية/ تسلطية، أو كما يطلق عليها البعض الديموقراطية بالإنابة، الأقرب كما يلحظ ألبير داغر في كتابه «أزمة بناء الدولة في لبنان» الى ديموقراطية الاستفتاءات، حيث تقتصر العودة الى الشعب على حقبة الانتخابات وتنتفي منها المساءلة.
ثمة نقطة أساسية ينهض عليها التضمين السياسي، وهي الأهم، تفعيل الإنماء المتوازن، فلا يمكن الحديث عن التخلف المجتمعي أو البيئات النابذة/ الطاردة، ورفض الآخر، متى استطاعت الدولة تأمين سياسات إنمائية فاعلة ومؤثرة لدى كل الشرائح، لكن ما الذي يحدث عندنا؟ تمركز الإنماء في العاصمة بيروت وإهمال المناطق الطرفية الأخرى، وقد ساهم ذلك في ازدياد الولاءات السياسية/ المذهبية، فأصبحت الجماعات أشد التصاقاً بالزعامة التقليدية بدل الذهاب الى الدولة. ولا يمكن أن نغفل عن النهج المقصود الذي يمارسه زعماء الطوائف في تكميم وتهميش الشريحة المدنية/ التمدينية، وهذه الشريحة الصامتة (التفاكرية والوطنية والعقلانية) تشكل إحدى الفئات المهمشة، ولا نطالب بحكم الانتلجنسيا لبناء مدينة فاضلة، لكن نتساءل لماذا يخاف قياديو الطوائف (أكلة الجبنة كما وصفهم الرئيس فؤاد شهاب) من العقلانيين والمفكرين وأهل الاختصاص فيعرضونهم للإقصاء والنبذ؟ الشريحة الصامتة يمارس ضدها كل أشكال الاستبعاد، على شاكلة كل من يحاول عقلنة السياسة، باعتبارها ثقافة وطنية وسياسية تمدينية وتضمينية، تهدف الى احتواء التعدد وتدفع به نحو الدولة الحاضنة.
يأخذ التضمين السياسي معانيَ متشعبة، لكنه يصب في خانة واحدة، وهو يقتضي التقريب بين أطراف التعدد، وتجسير العلاقات التضامنية في ما بينها، وتمدين الطوائف والانتقال بها من الطائفية السياسية الى الاندماج الوطني، وهذا يتطلب توسيع حضور الدولة في المناطق المهمشة التي تعاني من حرمان تنموي.
وحين تشعر الطوائف مهما كانت منغلقة على ذاتها أو إقصائية بوجود مؤسسات ضامنة (على المستوى الأمني والإنمائي والوطني والقانوني والتربوي) ستندفع وحدها نحو الدولة، غير أن التضمين السياسي المنشود دونه عقبات كثيرة، فهل بإمكان اللبنانيين بكل ما تحمله ذاكرتهم من صدمات جرحية، التحرر من ماضيهم والتعلم منه، قبل التحرر من زعماء وأمراء الحرب؟ يبدو الالتصاق بين الطرفين مخيفاً ودالاً على أكثر من معنى، ذاتي وتاريخي، خاص وعام، وهو إن دل على شيء، فعلى فوبيا التفلت من هذا الماضي الحاضر بيننا كما لو أنه غدنا ومستقبلنا.
كاتبة وباحثة ـ لبنان