عــودة روســيا الأرثـوذكســية نحو الشرق
«موسكو والقدس كالمحور القطبي ثابتتان في الوعي القومي الروسي، وعلى هذا المحور تسير السياسة الروسية». تلك مقولة لأحد المستشرقين الروس تؤكد إلى حد بعيد أهمية الزيارة التي سيقوم بها بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ابتداءً من اليوم.
بطريرك الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية الروسية، الضامن الأول للأرثوذكسية في العالم، يصل اليوم إلى القدس، في زيارة تاريخية تكتسب دلالات كبيرة، بالنظر إلى طابعها الروحي الذي يجدد حضور الكنيسة الروسية في المشرق العربي، بعدما أفل نجمها في الديار المقدسة منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البولشفية في العقد الثاني من القرن العشرين، وبالنظر أيضاً إلى رمزيتها السياسية في الوقت الذي تسعى فيه «روسيا – بوتين» إلى تعزيز حضورها السياسي في المنطقة العربية بشكل عام.
وسيحل البطريرك كيريل في هذه الزيارة ضيفاً على بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس ثيوفيلس الثالث، الذي يمثل اكبر جماعة مسيحية في الأراضي المقدسة. وخلال إقامته سيزور البطريرك كيريل المواقع المسيحية الرئيسية في القدس وبيت لحم والناصرة وطبرية.
وفي قال رئيس المكتب الإعلامي للكنيسة الروسية ألكسندر فولكوف إن «زيارة بطريرك روسيا كيريل لفلسطين مخطط لها منذ فترة طويلة، وهي تندرج في إطار التقاليد التي تشمل زيارة رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للكنائس الأرثوذكسية في العالم».
وأوضح فولكوف انه «استناداً إلى هذه التقاليد، زار البطريرك كيريل القسطنطينية في العام 2009، والإسكندرية في العام 2010، وأنطاكية في العام 2011، والكنيسة الأرثوذكسية البلغارية والبولندية والقبرصية خلال العام الحالي».
ويقدر عدد أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في فلسطين المحتلة اليوم بما بين 250 و300 ألف شخص، من بين حوالى 150 مليون شخص ينتمون إلى هذه الكنيسة، التي تعتبر أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية في العالم.
وبحسب فولكوف فإن «الحدث الأهم خلال هذه الزيارة هو عبور البطريرك درب السيد المسيح وصولا إلى نهر الأردن، وزيارته إلى الأماكن المقدسة»، مشدداً على أن «هذا ما يشكل الهدف الأساسي والرئيسي من الزيارة».
المتحدث الكنسي أشار إلى أنّ «جدول أعمال البطريرك ولقاءاته خلال هذه الزيارة غني بالمحطات الدينية والسياسية». وعلى المستوى الرسمي، أوضح المتحدث أن البطريرك كيريل سيلتقي الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز والرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ولم يحدد فولكوف ما إذا كان اللقاء مع السلطات الفلسطينية والإسرائيلية سيتناول مسألة النزاع في الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل اكتفى بالقول إن «أجندة اللقاءات كبيرة وتفتح المجال أمام أي موضوع يطرح».
ولعل الحديث عن «جدول أعمال غني» يتجاوز الديني إلى السياسي، يعكس الأهمية التاريخية للزيارة البطريركية، خصوصاً ان هذه الزيارة تأتي في سياق تحرّك جديد من قبل موسكو باتجاه المشرق العربي على المستويين السياسي والكنسي.
ومن الثابت تاريخياً، أن العامل الديني كان المحرك الأول للسياسة الخارجية الروسية، خصوصاً تجاه المشرق العربي، إذا ما استثنينا الحقبة السوفياتية، التي تراجع فيها العامل الديني لمصلحة العامل الأيديولوجي الماركسي ـ اللينيني وتوازن القوى في إطار الحرب الباردة.
ولعلّ من أبرز الدلالات على هذا الترابط بين الديني والسياسي، انه عقب اعتناق روسيا رسمياً الدين المسيحي بمذهبه الأرثوذكسي قبل ألف عام، كانت أول بعثة دبلوماسية يرسلها الأمير القديس فلاديمير هي بعثة العاصمة القديمة كييف إلى الديار المقدسة.
وبعد ذلك بنحو قرن، زار كبير الرهبان دانيال فلسطين برفقة مجموعة مع الرهبان الروس، لتبدأ منذ ذلك الحين رحلات الحج إلى الديار المقدسة، التي كانت تحتل أولوية مطلقة في السياسة الخارجية الروسية، وهو ما تبدّى خصوصاً في عدد من اتفاقيات السلام التي أبرمتها روسيا القيصرية مع السلطنة العثمانية.
لكن الحج لم يكن الاهتمام الوحيد للأرثوذكس الروس في مقاربتهم للوضع في المشرق العربي، إذ غالباً ما كانت الكنيسة الروسية تقدم العون للكنائس الأرثوذكسية القديمة، وهو ما حدث على سبيل المثال في القرن السادس عشر، وتحديداً في عهد القيصرين إيفان الثالث وإيفان الرابع (الرهيب)، حيث كانت ترسل إلى القدس تبرعات ضخمة لدعم البطريركيات الأرثوذكسية في الأراضي المقدسة.
هذا التوجه بلغ ذروته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين بلغ الوجود الروسي في فلسطين ذروة ازدهاره، حتى أن بعض المؤرخين يؤكدون أن اللغة الروسية كانت اللغة الثالثة في الأراضي الفلسطينية بعد العربية والتركية.
العصر الذهبي للحضور الروسي في الأراضي الفلسطينية توّج بقرار أصدره القيصر نيقولا الأول في العام 1847 بإنشاء البعثة الروحية الأرثوذكسية إلى القدس (وقد أصدر المجمع المقدس مرسوماً بتشكيل هذه البعثة التي وصلت إلى القدس في شباط العام 1848)، ومن ثم بتأسيس الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية الإمبراطورية (1882) بدعم مباشر من العائلة المالكة، والتي كان من مهامها تعزيز الحضور الروسي في المشرق العربي وتطوير العلاقات بين روسيا وشعوب المنطقة في سائر المجالات الدبلوماسية والدينية والعلمية والثقافية والاجتماعية.
وفي الداخل الروسي، شرعت الجمعية الإمبراطورية في الترويج لزيارة الأراضي المقدسة، وتسهيل أمور الحجاج، حيث عمدت لهذا الغرض إلى القيام بحركة بناء واسعة النطاق، فشيدت العديد من الأديرة والكنائس والفنادق، وامتد نشاطها إلى حقلي التعليم والصحة حيث أنشأت عشرات المستشفيات والمدارس، حتى بلغ مجموع ممتلكات البعثة الروحية والجمعية الإمبراطورية من أراض ومبان ما نسبته 1،5ـ 2 في المئة من مساحة فلسطين.
وبحسب مصدر كنسي أرثوذكسي مطلع، فإن زيارة البطريرك كيريل إلى فلسطين تأتي في سياق توجه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لاستعادة هذه المكانة التاريخية في فلسطين المحتلة.
وقال المصدر إن أهمية الزيارة، التي سبقتها زيارتان للمنطقة، تكمن في أن الكنيسة الروسية تسعى لأن تفتح جسراً واسعاً على الأرثوذكس في فلسطين، وذلك ضمن إطار رؤية واضحة تنسجم مع رؤية المسيحيين العرب في الأراضي المقدسة.
ويوضح المصدر أن ثمة قضية حساسة تزيد من أهمية هذه الزيارة، وهي هيمنة البطريركية اليونانية على بطريركية القدس، وهو أمر يثير امتعاضاً واسعاً من قبل الأرثوذكس في فلسطين، الذين يطالبون بـ«تعريب» هذه البطريركية.
ومن المعروف أن بطريركية القدس الأرثوذكسية تأسست سنة 451، وعندها أصبح للكنيسة الأرثوذكسية أربع بطريركيات إلى جانب القسطنطينية، والإسكندرية، وإنطاكية. ولأسباب تاريخية فإن بطريرك القدس يعين من اليونان، ما يجعله رؤيته لقضايا المنطقة – وتحديداً قضية فلسطين – تنطلق من أثينا وليس من القدس.
وتثير سياسات بطريركية القدس حفيظة المؤمنين في فلسطين، خصوصاً بعدما عمدت البطريركية إلى عقد صفقات بملايين الدولارات مع دولة الاحتلال للتنازل عن أراض ومبان تملكها الكنيسة.
ولذلك، فإن كثراً من الفلسطينيين الأرثوذكس يتطلعون إلى كسر هذه الهيمنة من خلال التقارب مع بطريركية موسكو، خصوصاً أن بطريركية القدس اليوم في وضع لا تحسد عليه، بعدما عمدت شركتان إسرائيليتان إلى الحجز على ممتلكاتها بسبب تخلفها عن دفع ضرائب المياه والكهرباء لكنيسة القيامة (مع العلم بأن هذه الكنيسة ظلت معفاة من الضرائب منذ ما قبل الفتح الإسلامي).
ولعل ما يعزز تعلق الفلسطينيين بموسكو يعود إلى عاملين: ديني وسياسي. فأواصر الصداقة بين الكنيسة
الأرثوذكسية والفلسطينيين تعود إلى قرون طويلة، حيث يروي مؤرخون أن لقب «رئيس فلسطين» منح للمرة الأولى إلى رئيس الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية الإمبراطورية، التي كان علمها يسمّى أيضاً «علم فلسطين».
وعلى المستوى السياسي، فإن كثراً يراهنون على روسيا التي استعادت مكانتها على الساحة الدولية في ما يوحي بانتقال النظام العالمي إلى «نظام متعدد الأقطاب» أو «نظام متعدد المصالح».
ويبدو أن ثمة قراراً سياسياً في روسيا باستعادة الدور المفقود في المنطقة العربية، ولعل زيارة كيريل للأراضي المحتلة تندرج في إطار مباركة الكنيسة الارثوذكسية الروسية لهذا القرار
.