بوتين ومحاربة الفساد
أقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السادس من الشهر الجاري وزير الدفاع اناتولي سيرديوكوف وعين محافظ مقاطعة موسكو سيرغي شويغو خلفاً له. وعن أسباب قراره هذا، قال بوتين «إن إقالة سيرديوكوف تأتي على خلفية ما يثار حول وزارة الدفاع الروسية، وبغية إجراء تحقيق موضوعي في الأمر». والمقصود هنا قضية فساد كبرى تتعلق بشركة «أبورون سيرفيس» التابعة لوزارة الدفاع، التي بدأت النيابة العامة الروسية في وقت سابق تحقيقاً مع مسؤولين كبار فيها بتهمة الاحتيال، ونهب أملاك الدولة وبيع عقارات ومساحات كبيرة من الأراضي، المملوكة لوزارة الدفاع، بأسعار بخسة تحت ستار عملية الخصخصة. وتقدر الخسائر التي تكبدتها خزينة الدولة من جراء ذلك بأكثر من ثلاثة مليارات روبل (نحو 100 مليون دولار). وبحسب المعلومات المتوفرة لدى المحققين، فإن بعض المسؤولين المقربين من وزير الدفاع شخصياً، وأغلبهم من النساء، متورطون في هذه القضية. واللافت أن شركة «أوبورون سيرفيس» تم استحداثها بموجب مرسوم رئاسي في سبتمبر/أيلول العام 2008، أي في عهد الرئيس دميتري ميدفيديف، وضمت 9 شركات فرعية وتولى وزير الدفاع المُقال رئاسة مجلس إدارتها حتى العام الماضي. وتقول بعض المصادر الروسية إن يفغينيا فاسيليفا، المديرة السابقة لإدارة ممتلكات وزارة الدفاع (وهي أحد المتهمين الرئيسيين)، ربما هربت إلى خارج البلاد، بالرغم أن بوتين طالب الوزير المُقال بتسليمها إلى جهات التحقيق.
لا شك أن هذه القضية تسلط الضوء بقوة على الفساد في روسيا الذي وصل إلى وزارة سيادية هامة مثل وزارة الدفاع. وتقول الخبيرة الروسية، أولغا كريشتينوفسكايا، «إن قرار بوتين كان غير متوقع لأنه حريص دائماً على عدم التخلي بسهولة عن المسؤولين الكبار الذين يعملون معه والذين اختارهم بنفسه». ومن المعروف أن بوتين اختار سيرديوكوف كوزير للدفاع في العام 2007 من خارج وزارة الدفاع الروسية، ما أثار حالة من السخط في صفوف هذه الوزارة السيادية وفي صفوف المعارضة، لأن الوزير المُقال كان يعمل في مجال تجارة الأثاث قبل تعيينه رئيساً لهيئة الضرائب في العام 2004. وسبق أن رفض بوتين رغبة سيرديوكوف بترك منصبه مرتين بسبب تسليط المعارضة ووسائل الإعلام الضوء على ارتباطه بعلاقة مصاهرة مع فيكتور زوبكوف، رئيس الوزراء الأسبق ونائب رئيس الحكومة الحالية.
ويبدو أن تراجع شعبية بوتين في الفترة الأخيرة، منذ عودته إلى حكم روسيا لولاية ثالثة، دفعته إلى التخلي عن سيرديوكوف، حيث تشير صحيفة «كوميرسانت» الروسية إلى أن الرئيس الروسي فقد خلال الفترة من 2002 وحتى 2012 نحو 25 % من أنصاره.
ويرى عالم الاجتماع الروسي، ليونتي بيزوف، أن استعادة بوتين لـ«محبة» قطاعات واسعة من المواطنين في روسيا بات صعباً، خاصة أنه تعهد أمام المواطنين الروس على مدار سنوات حكمه منذ العام 2000 بمحاربة الفساد المستشري في روسيا. غير أن بوتين في نهاية ولايته الثانية (2004 ـ 2008) اعترف بأنه لم يتمكن من القضاء على الفساد أو حتى محاصرته. في نفس الوقت لم يتمكن خلفه ميدفيديف على مدار أربع سنوات (2008 ـ 2012) من تخفيف حدة استشراء الفساد في البلاد. ففي العام 2011، وحسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية، كانت روسيا في مركز متقدم بين دول العالم التي يستشري فيها الفساد، وقد احتلت المركز 143 من أصل 178 دولة بجوار الكونغو. وللمقارنة كانت روسيا في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، الذي تسبب في الكثير من الكوارث السياسية والاقتصادية للشعب الروسي في تسعينيات القرن الماضي، تحتل المرتبة الثمانين في قائمة منظمة الشفافية العالمية للدول المنتشر فيها الفساد، الأمر الذي دعا ميدفيديف للقول «إن الفساد في روسيا تحول إلى ثقافة ونمط حياة».
ويُرجع مدير معهد قضايا العولمة ميخائيل ديلياغين أسباب استشراء الفساد في روسيا على نطاق واسع خلال الأعوام العشرة الأخيرة إلى تزاوج السلطة والمال، حيث يسيطر كبار رجال الدولة (وهم من المقربين لبوتين) على القطاعات الأساسية للاقتصاد الروسي. ويضيف البعض الآخر إلى هذه الأسباب انتشار المحسبوية التي تتجلى في احتلال أبناء الوزراء والمسؤولين الكبار مناصب مهمة في الشركات والمؤسسات المالية الكبرى في روسيا. ويصف أستاذ العلوم السياسية، يولي نيسنيفيتش، هذه الظاهرة بأنها «نومينكلاتورا» جديدة (هذا المصطلح كان يستخدم لتوصيف النخب الحاكمة في الحقبة السوفياتية) ظهرت في روسيا بعد حكم «الأوليغارشيا» في التسعينيات من القرن الماضي. ويرى نيكولاي بيتروف، من مركز «كارنيغي» في موسكو، أن المحسوبية ومحاباة الأقارب ظاهرة ملاصقة للنظام القائم في روسيا. ويقول «عندما يكون والدك وزيراً منذ أكثر من عشر سنوات، يكون لديك الوقت لإنهاء دراستك وأن تصبح في منصب كبير في شركة مهمة، وهو منصب يشغله محترفون ممن هم في عقدهم الخامس في الغرب». ويضيف بيتروف «إنه في بلد يتفشى فيه الفساد وتضارب المصالح، فإن الصلات العائلية في الشركات الكبرى تصبح مصدراً إضافياً للدخل». ولكن الباحثة الروسية أولغا كريشتانوفسكايا، ترى أن وجود أبناء المسؤولين الكبار في الشركات الكبرى هو أمر منتشر في أنحاء كثيرة من العالم ولا يقتصر على روسيا فقط.
بجانب قضية الفساد في وزارة الدفاع، يعتقد أن بوتين اضطر أيضا للتضحية بالوزير المُقال من أجل الحفاظ على التوازن داخل النسق الأعلى للنخبة الحاكمة، لا سيما أن بعض المراقبين يشير إلى صراعات بين سيرديوكوف وكل من ديمتري روغوزين، نائب رئيس الوزراء المسؤول عن المجمع الصناعي العسكري، ورئيس ديوان الكرملين وزير الدفاع السابق سيرغي إيفانوف. كما أنه لا ينبغي استبعاد تأثير عدم رضى بعض العسكريين الحاليين والسابقين عن سيرديوكوف على قرار الرئيس الروسي، بالرغم من أن رئيس الحكومة دميتري ميدفيديف وصفه أكثر من مرة «بالوزير النشط والفعال الذي حقق الكثير من الإنجازات في تطوير القوات المسلحة وحل المشاكل الاجتماعية للعسكريين».
وفي ما يتعلق بتعيين سيرغي شويغو وزيراً جديداً للدفاع، فهو أيضاً من المقربين جداً لبوتين وكان أيضاً من المقربين للرئيس الأسبق بوريس يلتسين، واستمر في عمله كوزير للحالات الطارئة (وزارة الطوارئ) لمدة 18 عاماً، وانتقل في ربيع العام الجاري إلى منصب محافظ مقاطعة موسكو. ويرى مدير معهد قضايا العولمة، ميخائيل ديلياغين، أن تعيين شويغو بديلا لسيرديوكوف يعكس مدى «فقر» ما لدى الرئيس بوتين من كوادر ودماء جديدة لازمة لإدارة البلاد. ومن المعروف أن الرئيس الروسي أصدر قرارا في سبتمبر/ أيلول الماضي بتمديد خدمة الموظفين والمسؤولين الكبار في الدولة حتى سن السبعين. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأهمية خطوة بوتين بإقالة وزير الدفاع المقرب منه لما لها من تأثير إيجابي في تعزيز هيبته كمحارب للفساد وربما في رفع شعبيته من جديد لدى المواطنين الروس.
كاتب وصحافي مصري مقيم في موسكو