هدنة الإبراهيمي نقطة انعطاف حاسمة في مسار الأزمة السورية
ساعات قليلة وتنتهي رسميا مدة الهدنة بين الأطراف المتحاربة في سورية. من حق الجميع التساؤل عما إذا كانت البلاد شهدت هدنة حقيقية في أيام عيد الأضحى المبارك. الجواب واضح ويكفي استعادة شريط أيام الهدنة الملونة بالدم من حديقة الزهور في جنوب العاصمة إلى تفجيرات جرمانا قبل ساعات من الآن وما بينهما من مئات الخروقات من درعا جنوبا إلى حلب ودير الزور وصولا إلى ريف اللاذقية.
نعم الهدنة لم تطبق. والسؤال المطروح هو هل كانت الفكرة وصاحبها الدبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي بهذا القدر من السذاجة؟
الاجابة على السؤال، وإن كانت واضحة بالنسبة لكثيرين وهي لا، تحتاج إلى العودة إلى مهمة المبعوث السابق كوفي عنان وأسباب فشل مهمته طوال أكثر من خمسة أشهر والتي أدت إلى استقالته. كما تحتاج الاجابة إلى قراءة للأوضاع الميدانية على الأرض، وأسباب موافقة الفرقاء على الهدنة، ومواقف القوى الدولية المتغير في ظل مخاطر انتقال شرارة الحرب الأهلية في سورية إلى دول الجيران.
قد يحتج قراء كثر على وصف الابراهيمي بالدبلوماسي المخضرم، وأصر على الوصف رغم عشرات المقالات التي قرأتها في الأيام الأخيرة وتعرضت له بشتى أنواع التجريح، ووصل الحد إلى نعته بالفاشل، واتهامه بالتآمر على الشعب السوري. وذهب بعضهم إلى انتقاد جلسة الابراهيمي، وطريقة كلامه. وتعرض كثيرون لمسيرته المهنية وأصوله النضالية من حزب جبهة التحرير الجزائري. وشخصيا أرى أن الإبراهيمي كان يمكن أن يرفض المهمة التي وصفها منذ البداية بالصعبة والمعقدة، ولن يعترض أحد على أن يواصل اجازته من أعمال الوساطة خصوصا أنه قد تجاوز الثامنة والسبعين من العمر.
فشل الهدنة واجتراح الحلول
باجابة مباشرة، فشلت الهدنة. وقل من توقع أن تنجح. ولا أظن أن الدبلوماسي العارف بأمور المنطقة وخفاياها بهذا القدر من السذاجة حتى يتوقع أن تنجح الهدنة بسهولة. وللاستطراد فإن فشل الهدنة يضع الأطراف المؤثرة كل أمام مسؤوليته وقراءته لما يجب أن يكون عليه الحل لاحقا.
فبالعودة إلى موافقة الأطراف على الهدنة نجد أن الحكومة السورية أعلنت موقفها من الهدنة بعد انتهاء يوم وقفة العيد، والواضح أنها تعرضت لضغوطات كبيرة من الجانبين الروسي والإيراني من أجل الموافقة. كما أن القوى المعارضة السياسية أعلنت موافقتها ورمت الكرة إلى نصف ملعب النظام، لكن ازدياد الضغوط على القوى المعارضة والحكومة من الأطراف المؤثرة والفاعلة أثمرت موافقة وإن كانت مشروطة بالرد على أي خروقات من الطرف المقابل.
ويعيدني اقتراح هدنة الإبراهيمي إلى حيل نقابية كنا نتبعها أثناء مؤتمرات اتحاد الطلبة. ففي أثناء المؤتمرات الحاسمة في ظل تقارب النتائج المتوقعة كنا نعمد إلى طرح اقتراح غير مهم للتصويت العلني، وكنا نعلم أن التصويت المذكور لن يؤثر في نتيجة المؤتمر، لكن طرحه كان تكتيكا حتى نكتشف طبيعة التحالفات القائمة، ونستدل على السبيل الأفضل لاستمرار المؤتمر من عدمه.
وأغلب الظن أن الإبراهيمي أراد بطرح اقتراح الهدنة أن يعطي القوى المؤثرة في الصراع السوري الداعمة للمعارضة والحكومة على حد سواء فرصة لمعرفة مدى قدرتها على ضبط ايقاع الأطراف التي تدعمها، وحجم القوى غير الملتزمة بالهدنة من الأساس.
كما أن الإبراهيمي وضع القوى الإقليمية والدولية أمام مسؤولياتها ولم ينتظر كسلفه عنان انتهاء مهمته حتى يكشف أن عدم التعاون من القوى الفاعلة كان سببا في فشل مهمته. ومن المستبعد أن يقدم على نعي مهمته سريعا قبل التوصل إلى حل للأزمة السورية.
وفي هذا الاطار لا يعيب الإبراهيمي عدم وجود خطة واضحة كاملة المعالم حتى الآن، واعتماده على مبدأ الخطوات الصغيرة والرحلات المكوكية، فخطة عنان ذات النقاط الست كانت أفضل حل ممكن للأزمة السورية، لكن غياب الآليات الواضحة، ومحاولة الأطراف حسم الموضوع عسكريا على الأرض أجهض الوساطة خصوصا في ظل تضارب التفسيرات الدولية لنتائج مؤتمر جنيف في نهاية يونيو/حزيران. ويبدو أن الإبراهيمي يراهن على نضوج الحالة الداخلية بوصول الأطراف المتحاربة إلى قناعة بعدم القدرة على الحسم عسكريا، واقتناع المجتمع الدولي بأن ما تشهده سورية هو حرب اهلية يمكن أن تنتقل شرارتها إلى دول الجوار بما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي مما يقتضي ضرورة التدخل بسرعة.
زيارة موسكو…
يتزامن انتهاء مهلة العيد رسميا مع زيارة الإبراهيمي إلى موسكو. وتكمن أهمية الزيارة في أنها تأتي قبل أيام من موعد تقديم المبعوث الأممي احاطة إلى مجلس الأمن حول مهمتهه، وربما تقديم اقتراحات عملية للحل.
الإبراهيمي لاقى دعما لافتا في لقائه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي جدد دعم موسكو للمهمة واستعداها للعمل من أجل وقف اطلاق النار، وعودة المراقبين الدوليين بأعداد أكبر إلى سورية، والعمل مع مختلف أطراف الأزمة من أجل إيجاد حل سلمي بالتفاوض على أساس وثيقة جنيف. وشدد لافروف على أن المهمة الرئيسة حاليا “هي حثّ كل السوريين المتناحرين على وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات”. وأكد على أن المطلوب من كل اللاعبين الخارجيين أن يستخدموا نفوذهم “ويؤثروا على مختلف المجموعات السورية الحكومية والمعارضة”، وناشد لافروف مختلف الأطراف الإقليمية والدولية إلى أن “يبعثوا بإشارات مماثلة إليها وأن لا يحرضوا أحد الأطراف على مواصلة العنف، ويقنعوا الجميع بوقف إطلاق النار والانتقال إلى العملية السياسية”.
الدعوة الروسية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية تنبع من قناعة موسكو بأن استمرار الأزمة يهدد بانتقال شرارة الحرب الأهلية إلى دول الجوار، وامكانية نشوب نزاع في المنطقة على أساس طائفي بين الأطراف الإقليمية الداعمة للرئيس بشار الأسد والمعارضة له، ودخول سورية في دوامة عنف كتلك التي شهدتها دول كثيرة في العالم العربي.
وليس سرا أن روسيا كانت من أول الأطراف التي دعمت هدنة الإبراهيمي منذ اطلاقها وهي اليوم إذ تأسف لعدم تنفيذ الهدنة فإنها تدعو إلى مواصلة الجهود لحل الأزمة بالمفاوضات لأن عكس ذلك سوف يؤدي إلى تدمير ما تبقى من سورية، ويمكن أن يفتح على تدمير المنطقة.
الانعطاف الكبير…
لم تصمد الهدنة وتواصل القتل في سورية طوال أيام العيد، وهي هدنة لم تطبق أساسا في أماكن الصراع الرئيسية في شمال غرب سورية لخوف كل طرف من أن يختل التوازن القائم لمصلحة الآخر في هذه المنطقة التي يبدو أنها ستكون ساحة لأحداث جسام في المستقبل القريب في حال عدم التوصل إلى وقف شامل لاطلاق النار، والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ويبدو أن الأيام المقبلة سوف تكون حبلى بتغيرات درامية في الأزمة السورية، وما بعد هدنة الإبراهيمي ليست كقبلها، وهناك إرادتان واضحتان الأولى ترى أن احتمال التدخل العسكري بات وشيكا مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، ونضوج الأوضاع الميدانية بسيطرة المعارضة على مناطق واسعة في الشمال الغربي يمكن أن تكون منطقة عازلة تتعزز في حال النجاح بحسم معركة حلب نتيجة قطع خطوط الامدادات عنها. وأخرى ترى أن الحسم العسكري غير ممكن، وأن استمرار القتال سوف يؤدي إلى تدمير ما تبقى من سورية، وسوف يجر البلاد والمنطقة إلى حرب طويلة لن تنتهي إلا بالجلوس على طاولة المفاوضات.
على الأرض السورية سالت الدماء واستمرت المعارك في أكثر من مكان رغم إعلان الهدنة ولم ينعم بها المواطن السوري بالأمان في أيام عيد الأضحى رغم أنه بأمس الحاجة إلى استراحة من القتل والدماء والدمار. ومما لاشك فيه أن العواصم المعنية والمؤثرة في الأزمة السورية راقبت الهدنة بتمعن وعمق أكثر من تصريحات صحفيين ومراقبين هنا وهناك كالوا الاتهامات إلى أحد طرفي الصراع أو صبوا جام غضبهم على الإبراهيمي. ورغم أن الهدنة لن تنفذ عمليا إلا أن أثرها يتجاوز اطارها الزماني ليرسم ملامح المرحلة المقبلة مع انتهاء صناع القرار في العواصم الإقليمية والعالمية من استخلاص دروس الهدنة، وطبيعة التوازنات على الأرض.