إشكالية الاختلاف
لعلنا جميعاً نتذكر تلك القصة التي غدت من المأثورات الثقافية / الشعبية، والتي كانت تشكل مفردة من مفردات المنهج الدراسي في الصفوف الأولى. تلك التي تحكي عن أب (حكيم) يوزع على أبنائه أعواداً هشة، ويطلب منهم محاولة كسرها كل على حدة، وسرعان ما تتقصف الأعواد واحداً واحداً، ثم في خطوة أخرى يعرض عليهم ذات الأعواد، وقد ربطت في حزمة واحدة، ويطلب من كل منهم تجربة كسرها، وطبعاً يستعصي الأمر على الكسر. وهنا تنطلق الحكمة الخالدة أو البيت الشعري المأثور:
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسّرت آحادا
ومن هذه القصة «المفبركة» وأمثالها تتأسس في ثقافتنا فكرة الوحدة والكتلة البشرية الواحدة، ويأخذ مفهوم التشابه والتشاكل بعداً مؤثراً في منظومة القيم المجتمعية. ويغدو تبعاً لذلك الاختلاف في الرأي والاستقلالية في الفكر سبة ومثلبة سرعان ما تودي بصاحبها إلى الأذى أو العزلة، فثقافة القطيع ومجتمع الامتثال للجماعة في الغي والرشد، واستحقار كل من يغرد خارج السرب كانت ولاتزال شرائع راسخة في الوعي الجمعي.
وإن كان هناك من الأسباب ما يبرر قبول الصبغة الواحدة في المجتمعات القديمة، كالرغبة في الحماية تحت ظل القبيلة أو العشيرة، وعدم الخروج عن طوعها ومنظومة قيمها، فما المبرر الآن والفرد يعيش مستظلاً بالقانون والحقوق المدنية التي تكفلها الدساتير والشرائع الدولية؟
لقد كان الاختلاف والتنوع ولايزال سمة طبيعية في أصل الحياة ونشأة الكائنات، فالكون في عمومه بُني على التنوع والتعدد، وأي محاولة لمعاندة هذه الفطرة الأصيلة في الإنسان لن تثمر إلا مزيدا من المعاناة والصدام. صحيح أن الاختلاف في الفضاءات المحدودة كمحيط الأسرة ودائرة الصداقات وبيئة العمل قد يكون مؤلماً، إلا أنه في النهاية يبقى أمراً مشروعاً. وبقليل من المكابدة والتحمّل يمكن تدريب النفس على القبول والتأقلم، فأنت لا تستطيع أن تجعل الآخرين على شاكلتك وهواك مهما حاولتَ وجاهدت.
على مستوى الفكر العالمي باءت محاولات دمج ثقافات الأمم تحت مسميات العولمة بفشل ذريع، بل قادت إلى ما سُمي بصدام الحضارات وحرب الثقافات. ولترميم ما أحدثت تلك الأطروحات من خلل وقلاقل بين المجتمعات البشرية، فقد برزت أطروحة موازية تدعو إلى حوار الثقافات وحق الشعوب في الاختلاف والتميز، مع توفر النوايا الصادقة في التقبّل والتسامح والتحاور البنّاء. ويبدو أن الطريق لهذا اللون من الحوار والفهم المتبادل بين المختلفين ثقافة وانتماء بات ممهداً، أو ينبغي أن يكون كذلك مع توفر وسائل وآليات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال والتواصل الحديثة.
بيد أن إشكالية أخرى بدأت تبرز مع تكنولوجيا التواصل وحلقات التخاطب ذات صلة بمسألة الحوار بين المختلفين، فسهولة الولوج إلى هذه الوسائل الحديثة، وتوفر فضاءاتها للعموم، وانفتاحها على الحريات المطلقة غير المحدودة، باتت تستلزم الالتفات إلى جملة من الأخلاقيات والسلوك الحضاري والنضج المعرفي. وهذا لا يتحقق إلا بالتحلي بسعة الأفق وقبول المختلف، وعدم الاحتكام إلى التصورات المسبقة عن الثقافة المغايرة، أو اللجوء إلى الشحن العاطفي والانفعالات السلبية تجاه الآخر.
على المستوى المحلي، وفي خضم الظروف السياسية الراهنة نحتاج إلى مراجعة ثلاثة دروس مهمة من دروس الحياة المعاصرة،
الأول: الإيمان بأن الاختلاف ميزة بشرية وفضيلة ذاتية، وان وجوده يثري المجتمع ويلون أطيافه ويجدد طاقاته،
والثاني: ليس من المفترض أن نضيق ذرعاً بالآراء المتباينة والأفكار المتعارضة والفرق المتخاصمة، فتلك سنة الحياة والأحياء،
أما الثالث، ولعله أهمها، فهو أن التحاور والنقاش بين المختلفين لن يؤتي أكله إلا إذا كان قائماً على ركائز الحرية والحجة العقلية والاحترام المتبادل. وليتنا نقف طويلاً عند الدرس الثالث، فهو الذي يحدد مدى تحضّر الشعوب ووعيها