مشهد الإسلام السياسي من المعارضة إلى السلطة: الخوف من فقاعة
أكثر ما يشغل الآن هو مشهد الإسلام السياسي، حيث ظهر وكأنه هو المستفيد من الثورات العربية من خلال وصوله إلى السلطة في كل من تونس ومصر، وحتى المغرب. فقد نجح في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأصبح “يحكم” في هذه الدول الثلاث. بالتالي هل نحن مقبلون على سيطرة إسلامية على البلدان العربية؟
هذا هو الهاجس الذي يسكن وعي قطاع كبير من اليساريين والعلمانيين، ويخيف “الأقليات الدينية”، ويُظهر “الغرب” أنه متخوّف منه. ولهذا يزداد التشكك بالثورات ذاتها، ويظهر التردد من دعم التغيير، وتنتشر حالات من اليأس والإحباط في قطاعات عديدة تخاف من سيطرة هؤلاء، وتتخوّف من “حكمهم الطويل” كما تظن. لهذا يظهر الأفق متشحاً بالسواد. فقد حكم الإسلاميون في إيران منذ سنة 1979 إلى الآن، وحكم البشير في السودان منذ سنة 1989 إلى الآن، وحماس حكمت فاستوطنت. وهو الأمر الذي يفضي إلى التأكيد بأن وصول الإسلاميين إلى السلطة يعطي “تأبيدها” لهم.
هذه صورة سوداوية بالتأكيد، وتنطلق من بعض التجارب السابقة، لكنها لا تنطلق من الواقع القائم، ولا من الظروف الموضوعية التي سمحت بوصول هؤلاء إلى السلطة، وبالتالي من فهم مقدرتهم على الحكم أصلاً، أي مقدرتهم على قيادة السلطة والتصرف بـ”راحة” ودون منغصات، في وضع “ثوري” كالذي بدأ منذ 17/ 12/ 2010 في سيدي بوزيد في تونس، وانتشر بسرعة كبيرة إلى مختلف البلدان العربية بشكل أو بآخر. فهل سيتمكنون من الحكم؟ وهل سيستطيعون “إعادة بناء” السلطة لكي يحكمون السيطرة عليها؟
هذه مسائل تحتاج إلى تحليل، وهي في صلب فهم “المشهد الإسلامي”، الذي سيبدو كمشهد كاريكاتوري في فاصل بين ثورتين أو أكثر.
مشهد الإسلام السياسي
لماذا تحقق انتصار الإسلاميين في الانتخابات بعد ثورات عاصفة؟
فالمعروف أن دورهم في الثورات كان هامشياً، حيث لم يكن هناك وجود حقيقي لحركة النهضة في تونس نتيجة القمع الذي تعرضت له خلال حكم زين العابدين بن علي، ولم تقرر جماعة الإخوان المسلمين المشاركة في الثورة إلا بعد أن ظهر كسرها لهيبة السلطة بعد خروج الملايين في مختلف أنحاء مصر، وظلت مشاركتها مترددة حيث فاوضت عمر سليمان في عز الثورة.
ما لا بد من ملاحظته هو أن الإسلام السياسي كان يظهر في العقدين الأخيرين خصوصاً كمعارض للنظم القائمة، وكـ”مقاوم” للدولة الصهيونية والسياسات الأميركية، وهذا ما أعطاه رمزية مهمة، فوسّع من قاعدته، وجعله يبدو قوة المعارضة الوحيدة أو الأساسية. وبالتالي أن يحصد التفاف القوى الأخرى حوله وقبولها كونه “القائد” للصراع ضد النظم. في الوقت الذي كان اليسار بأشكاله القومية والاشتراكية يتراجع، ويتلاشى، ويحمّل مسؤوليات الفشل سواء في “النظم القومية” أو حتى في التجارب الاشتراكية. ويقبل هو دور المعلي من أهمية و”نضالية” وحداثية الإسلاميين.
كما لعب الإسلاميون دوراً في استقطاب قطاعات مجتمعية من خلال أشكال “الاحسان” التي يمارسونها عبر الجمعيات الخيرية، وكان ترابطهم “التاريخي” مع المال النفطي يوفّر لهم دعماً كبيراً كان يستخدم في هذه المجالات. ولهذا بدا أن لهم قاعدة اجتماعية من فئات مفقرة، رغم أن قاعدتهم الأساسية تشكلت من قطاعات تجارية “تقليدية”، ومن نخب من الفئات الوسطى تقليدية المنحى.
هذا وضع جعل لهم رمزية ما، حيث جرى اعتبارهم قوة المعارضة في مختلف البلدان العربية رغم وجود أحزاب أخرى، وأصبحوا محور التحالفات ومركزها. لكنهم حين بدأت الثورات بدو بعيدين عنها، راشد الغنوشي دعم الثورة التونسية من بعيد، والإخوان المصريون رفضوا المشاركة في إضراب 25 يناير/ 2011 الذي كان هو المفجر للثورة، وركّزوا على الإصلاح فقط. لكن بدا، بعيد سقوط كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، أن من أسقطهم يتحالف مع هؤلاء الإسلاميين، الذين باتوا يعتبرون أنهم هم السلطة من لحظتها. وبدا أن تفاهماً قد تحقق بين “الانقلابيين” (قيادات الجيش) والإسلاميين، وأن إعادة إنتاج السلطة سوف يتحقق عبر دفع هؤلاء الأخيرين إلى واجهة السلطة، لكي يقال بأن المعارضة قد استلمت السلطة بعد الثورة.
في الانتخابات كان الإسلاميون هم القوة المنظمة، والمدعومون من قبل أجهزة السلطة، البيروقراطية والإعلامية والأمنية. وهو ما أوجد شريحة اجتماعية ليست صغيرة تميل إلى انتخابهم تأثراً في هذا “الجو السلطوي” الداعم. لكن الأهم ربما كان غياب الأحزاب القوية التي يمكن أن تشكّل عنصراً منافساً، ومن ثم ميل قطاع مهم من المشاركين في الثورة إلى دعمهم انطلاقاً من “تجريب” خطابهم الذي كان يقول بأنهم يمتلكون حلولاً لمشكلات المجتمع والطبقات الاجتماعية المفقرة. وهذا ما جعل هذا القطاع من الشعب يعتقد بأن عليه تجريب هؤلاء.
كل هذه العناصر لعبت الدور المهم في أن يحصد الإسلاميون العدد الأكبر من أعضاء البرلمان (وانتخابات الرئاسة في مصر). وأن يصبحوا هم السلطة “الجديدة”.
هذا الأمر هو الذي أخاف، وأربك قطاعا كبيرا من اليسار والعلمانيين، والإعلام الغربي، ونثر المخاوف حول “السلطة المطلقة” التي يمكن أن تجعل الإسلاميين يحكمون “إلى الأبد” (حسب الشعار السوري)، ويتكرر المشهد الذي حدث في إيران والسودان. ومن ثم ندخل في “حقبة ظلامية” لعقود جديدة، ربما في شكل أقسى مما شهدناه في العقود السابقة.
هل يستقر حكم الإسلاميين؟
إذا كان الظرف الموضوعي هو فرض أن يصبح الإسلاميون هم السلطة، سواء نتيجة غياب بالبدائل السياسية التي تعبّر عن الشعب، أو نتيجة كل التكتيكات التي اتبعت من أجل أن يكونوا هم “الشكل الجديد” للسلطة. فإن السؤال الذي يطرح هنا هو: هل يمتلك الإسلاميون حلولاً لمجمل المشكلات التي فجّرت الثورات؟ أو هل يمكن لهم أن يحكموا دون تحقيق المطالب التي كانت في أساس الحراك الشعبي الذي فجّر الثورات؟
ما يبدو واضحاً هو أن الإسلاميين لا يمتلكون برنامجاً يتضمن حلولاً للمشكلات المجتمعية، وإذا كانوا معارضين للنظم السابقة فذلك لم ينتج عن اختلاف عميق معها في كثير من المسائل الجوهرية، وربما كان تخوّف النظم مما كان يشاع عن دعم أميركي لإشراك هؤلاء في السلطة هو الشكل الأبرز للاختلاف الذي كان يظهر بينهم، رغم أن الإسلاميين دعموا الكثير من المواقف والقرارات الاقتصادية والسياسية لها. وإن التدقيق في “الصراعات العملية” يشير إلى ميل “رجال الأعمال الجدد” (أي المافيا المتشكلة حول عائلة الرئيس) إلى السيطرة الشاملة على الاقتصاد المحلي، وبالتالي تدمير كل الفئات الرأسمالية الأخرى أو “هضمها”، الأمر الذي جعل الصراع حتمياً بين الطرفين كون القاعدة الأساسية للإسلاميين كانت من فئات تجارية “تقليدية” (أو حتى مافياوية، مثل شركات توظيف الأموال مثلاً).
فالأساس الاقتصادي الذي يطرحه الإسلاميون ينطلق من حرية التملك، ورفض المصادرة، كما من التركيز على التجارة كون فيها “تسعة أعشار الربح” كما ادعى أبو حامد الغزالي. وليس ذلك غريباً عن منطقهم، حيث تشكّل ما عرف بـ “الإسلام السني” بعيد بدء انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية، وتقوقع المدن التي باتت مراكز تجارية. ومن ثم تشكّل كمعبّر عن هؤلاء. ولقد اتخذ طابعاً محافظاً تأسيساً على ذلك، وتمركز حول “الأحكام الأخلاقية”. هذا ما بدأ مع الإمام أبو حامد الغزالي، ممتداً إلى ابن تيمية، وصولاً إلى محمد بن عبد الوهاب وتبلور جماعة الإخوان المسلمين.
لهذا وجدنا أن جماعة الإخوان المسلمين تدعم قرارات حسني مبارك فيما يتعلق بإلغاء التأميم وتعميم الخصخصة، وكذلك القرارات التي صدرت بخصوص الأرض وأقرت بإعادة الأرض إلى الإقطاعيين القدامى وتشريد الفلاحين. وما عبرت عنه الجماعة بعد الثورة، وخصوصاً بعد سيطرتها على مجلسي الشعب والشوري، حيث أكد أكثر من مسؤول فيها بأن الجماعة لم تختلف مع حسني مبارك في سياسته الاقتصادية. وأيضاً هذا ما تردد على ألسنة قيادات في حركة النهضة التونسية، حيث جرى القول إن الحركة لم تختلف مع بن علي في سياسته الاقتصادية. ولهذا وجدنا السلطة الجديدة في البلدين، تونس ومصر، تمارس السياسات ذاتها في المجال الاقتصادي، مثل الاعتماد على قروض صندوق النقد الدولي، والسعي لتقديم “تسهيلات” لجلب “الاستثمارات الأجنبية”. وكذلك رفض تحديد حد أدنى للأجور، أو إيجاد مداخل لحل أزمة البطالة، أو التفكير في تحسين التعليم والصحة والبنية التحتية.
كما لم يظهر أنها تعمل على تأسيس دولة ديمقراطية حقيقة، حيث أخذت تمدّ السيطرة على مؤسسات الدولة، وتفرض سطوتها على الإعلام، وتعود لقمع الحراك الشعبي، وتشن هجوماً على الإضرابات تحت حجة رفض “المطالب الفئوية”.
بمعنى أن “السلطة الجديدة” كرّست النمط الاقتصادي الذي تشكل في العقود التالية للناصرية في مصر، وعززت من السياسات الليبرالية في كل من مصر وتونس، وهو ما يمكن أن تفعله أنى نجحت في أن تكون هي “السلطة الجديدة”. لهذا يمكن التأكيد بأنها لا تحمل حلولاً لمشكلات البطالة وتدني الأجر وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، كما لا يمكن ضمان أن تكون ديمقراطية، وأن تؤسس دولة مدنية ديمقراطية كما طالب الشعب في ثوراته، فقد عادت للكلام عن “الخلافة الإسلامية”، وأخذت توحي بضرورة “تطبيق الشريعة”، وتعمم بأن وصولها السلطة هو نتاج تحقق “وعد إلهي” سوف يقود إلى سيطرتها على “ديار المسلمين”.
ما هو هام هنا هو أن “مشروع النهضة” الذي تطرحه لا يحمل حلولاً للمشكلات التي كانت في أساس تفجّر الثورات: البطالة والأجر المتدني، وهي المطالب التي كانت في أساس تفجّر الثورة التونسية، ومن جملة مطالب الثورة المصرية، وكل الثورات العربية. ولا في تأسيس الدولة المدنية التي كانت هي الأخرى مطلباً واضحاً في هذه الثورات. بالتالي هل يمكن أن يلوذ الشعب بالصمت معتبراً أن ثورته قد فشلت أو سرقت، وأنه لم يجنِ سوى وصول الإسلاميين إلى السلطة؟
هذه النقطة تغيب عادة عن البحث، أو يعتبر أن فشل الثورة قد حصل. لكن هل يمكن للذين تمردوا بعد أن اصبحوا عاجزين عن تحمّل الوضع الذي يعيشونه أن يعودوا إلى قبول الوضع ذاته؟
الحراك المستمر يشير إلى أن الأمر مختلف، حيث أنه ليس من الممكن أن يجري التراجع بعد أن أصبح الواقع ذاته لا تسمح بالعيش، وبعد أن امتلك هؤلاء الجرأة وتسيّس قطاع كبير من الشباب الذي كان منكفئاً أو منعزلاً. بمعنى أن سلطة الإسلاميين سوف تكون عرضة لاحتجاجات متتالية كبيرة، ربما تخفت قليلاً لكنها سرعان ما تعود بقوة، وبالتالي أن تكون هي ذاتها سلطة مهزوزة وضعيفة، ربما تحاول أن “تضرب بقوة” لكن دون مقدرة على الحسم، ودون مقدرة على ضبط الوضع الشعبي المتحرك. لهذا ستبقى سلطة ضعيفة وعرضة للانهيار والعجز عن الحكم.
الإسلاميون الآن في تجربة قاسية، هم ليسوا قادرين على الخروج منها منتصرين، لأنهم بالضبط لا يمتلكون الأساس الذي يسمح بذلك، وهو الحلول لمشكلات مجتمعية كبيرة تراكمت طيلة عقود، ولوضع اقتصادي طبقي يفرض تغيير كلية النمط الاقتصادي، في حين أن رؤيتهم الاقتصادية لا تخرج عن تكرار السياسة الاقتصادية الليبرالية الدراجة، والتي كان تطبيقها منذ الانفتاح الاقتصادي الذي قام به أنور السادات في مصر، ومنذ القبول بشروط صندوق النقد الدولي واعتماد الخصخصة والاتكاء على الديون، كان تطبيقها هو الذي فجّر هذه الثورات، بعد أن أوصل الشعب إلى حالة من التهميش شديدة القسوة. لهذا ستكون سلطة “فاشلة”، وستفضي سياساتها إلى عودة الغضب الشعبي. ولن يقف الدين حاجزاً أمام تصاعد هذا الغضب، لأن مقياس الشعب “عملي” وليس روحيا، ويتعلق بالحلول التي تقود إلى تجاوزه وضعه الراهن، الذي بات لا يمتلك ترف التخلي عن النشاط من أجل تجاوزه.
ربما كان على السياسة أن تُفهم الآن أنها من صنع الشعب وليس من صنع النخب التي يمكن أن تتوه خلف تخوفات وتوهمات، وتقديرات ليست مبنية على فهم حقيقي للواقع، ولمعنى أن يثور الشعب. ليس من خوف من سلطة أصولية قوية وطويلة، بل نحن في لحظات تلاشي مشروع الإسلام السياسي.