الجاسوس القادم من الضباب وقصص أخرى

اسمه مارك كينيدي، أبقى على «مارك» وعدّل اسم العائلة احتياطاً، وأطلق شعره وربطه كذيل حصان، ووضع قرطاً في أذنه اليسرى، علامة التمرد على القيم السائدة، وراح يشارك في كافة التجمعات المناهضة لـ«الناتو» ولاجتماعات «مجموعة العشرين» للدول الأقوى في العالم. ثم دفعته حميته الثورية للانضمام إلى جماعة صغيرة تؤمن بـ«الاستقلالية»، أي لا تنضوي تحت لواء أي حزب أو حركة، وتعيش معاً في مناطق ريفية تزرع وتنتج بذاتها طعامها، وتستهلك أقل ما يمكن، وبكل الأحوال تفعل بلا نهَم استهلاكي وإنما حين الضرورة، منشقة بذا، وفق فلسفتها، عن «النظام» المهيمن، مجموعة اشتهرت في ما بعد لأن السلطة الفرنسية أرادت كسر إضراب اجتماعي هائل وممتد بالإيحاء بأنه يشجع على ولادة أعمال عنفية و«إرهابية»، ساعية من وراء ادّعائها ذاك إلى فبركة أخطار وهمية. مثل تلك المجموعات «المستقلة» أو ذاتية التنظيم، كبير العدد في كل أنحاء أوروبا الغربية وأميركا الشمالية بما فيها الولايات المتحدة وكندا.

 ولبعضها، التي تشكل أحياناً جماعة اجتماعية (community) أسماء ترتبط بالمكان أو بحدث سياسي هام. ومنها جماعة «هضبة لارزاك» التي تأسست العام 1971 حول مقارعة مصادرة أراضي الفلاحين في جنوب فرنسا لتوسعة قواعد عسكرية كانت مقامة هناك (بصلة خصوصاً وتاريخياً باحتلال الجزائر، ثم بتدريبات قوات «الناتو»)، واستمرت تناضل سلمياً لعشر سنوات، محبِطة المشروع ومجدِّدة تأسيس تقاليد العصيان المدني السلمي. وهي كانت بعد ذلك واحدة من بؤر انطلاق «الحركة العالمية لمناهضة العولمة النيوليبرالية والحرب» التي ظهرت للعلن أول مرة في سياتل في الولايات المتحدة العام 1999، بعد سنوات قليلة من انهيار المعسكر الاشتراكي، وفي عز انتفاخ فكرة «نهاية التاريخ» بانتصار النمط الرأسمالي «نهائياً». تنتمي تلك المجموعات إجمالاً إلى الفكر اليساري المتحرر من «الدوغما»، والذي ينتقد بحدة التجارب الاشتراكية «المتحققة».

 وبعضها يمزج اليسارية بأفكار روحانية ينتمي معظمها إلى لاهوت التحرير المسيحي، وبعضها الآخر بأفكار بيئية وإيكولوجية. وهي راحت توصَف على لسان المسؤولين الأوروبيين بالـ«ultra» أو المتطرفين، كما فعلت وزيرة الداخلية الفرنسية يوم اعتقال «مجموعة تارناك» (على أسم القرية التي سكنوها)، التي تسلل إليها الجاسوس البريطاني.

ولا يبدو أن المسؤولين الاوروبيين بصدد التخلي عن فكرة التلويح بنيات «إرهابية» لمثل تلك المجموعات، رغم تهافتها. بدليل أن وزير الداخلية الفرنسي الحالي الاشتراكي مانويل فالس، أكد عقب اجتماع أمني في روما الأسبوع الماضي، على «ضرورة وجود تنسيق أكبر بين أجهزة البوليس في أوروبا حيال أشكال العنف التي ينتجها اليسار المتطرف وحركات فوضوية أو مستقلة»… وهو عنف لم يوجد عليه بعد أي دليل حسي، رغم محاولات رسم صورة لشبكات خفية مخيفة. بل انكشف منذ أيام أن كل الملف الاتهامي لمجموعة «تارناك» تلك فارغ ومفبرك.

 وهو ما تعنتت السلطات الفرنسية بخصوصه واستمرت في نفخه رغم القناعة العامة المضادة، وعشرات المقالات الصحافية الساخرة، إلى أن افتضح أمر الجاسوس البريطاني صاحب التقارير الملتهبة، ما أدى إلى حل الجهاز الذي كان يُشَغِّله! قامت «قضية تارناك» على توجيه تهمة تعليق قضبان حديدية على أعمدة كهرباء إحدى سكك الحديد (مما يعطل سير القطارات) في عز إضراب كبير لعمال النقل، وعلى تهمة التخطيط أو للدقة التفكير بارتكاب تفجيرات. واعتقل أفراد المجموعة العشرة وعدد من أصدقائهم في عمليات كوماندوس لقوات مكافحة الإرهاب! وتبين إذاً بعد أربع سنوات من هذه التجارة الخاسرة أن كل الموضوع مسخرة.

وفرنسا بالطبع ليست «جمهورية موز». وهي بلد مؤسساته عريقة، وتقوم فيه سلطة قضائية مستقلة، ويسوده مفهوم الحق العام. وقد سجلت التصرفات الاعتباطية، الاستنسابية و/أو الاستعراضية، والخطاب المتشنج المرافق لها أيام الرئيس ساركوزي، على النموذج الخاص للرجل المولع بالدعاية والبريق من كل نوع، والذي امتاز بترقية أصدقائه إلى مناصب خطيرة، بالضد من تقاليد راسخة في البلاد

. وهو مارس ذلك الخطاب (علاوة على الإجراءات القانونية والإدارية المتخذة) بنفسه وعبر أصدقائه من الوزراء، وأغلبهم أتى من صفوف تنظيمات اليمين شبه الفاشي الذي انتموا إليه علناً في شبابهم. وقد تجرأوا على اعتماد تعابير بالغة العنصرية في العديد من مداخلاتهم، كمحاولة ربما لجعلها عادية ومألوفة. واعتبر تمكن ساركوزي وجماعته من ذلك كله، «استثناء» سهلته الأزمة الاقتصادية الطاحنة وما يرافقها عادة من اختلالات قيمية، تجعل مقاومة «الاستثناء» مضطربة وواهنة. وإن كان يمكن في الوقت نفسه التذكير بأن النظام الديموقراطي يحيط نفسه دوماً بقوانين استثناء يمكنه اللجوء إليها واستخدامها عند الحاجة، أي في ممارسة الضبط السياسي. وهذا في التعريف أصلاً، ولا يرتبط بسلطة محددة أو ببلد بعينه. ولعل عيب مرحلة ساركوزي أنها ابتذلت تلك الحاجة.

وإن كانت قصة الجاسوس البريطاني وجماعة «تارناك» جزءاً من تاريخ صراعي قديم في الغرب، وتمتلك مرجعياتها الخاصة والمتنوعة، منذ الثورة الفرنسية وحتى الحرب الأهلية الاسبانية، مروراً بروسيا… فإن تعامل الغرب مع تاريخه الاستعماري، ومع «آخر» قائم بذاته ويمتلك مقوماته الخاصة، أعقد بكثير.

وهكذا نصل إلى القصة الثانية: عليمة بومدين تيَّري. هذه السيدة الجزائرية الأصل كانت حتى العام الفائت عضواً منتخباً في مجلس الشيوخ الفرنسي، بعدما كانت قبلها عضواً منتخباً في البرلمان الأوروبي ممثلة لحزب أوروبا الايكولوجية/الخضر، وقبلهما عضواً منتخباً في بلدية مدينتها. ولم يُعِد هذا الحزب ترشيحها على قوائمه، والمرجح أن ذلك يخفي انزعاجاً من «مبالغتها» في تأييد القضية الفلسطينية، إذ زارت فلسطين مرات ضمن بعثات متنوعة، ودخلت إلى غزة يوم وقف إطلاق نار «الرصاص المصبوب»، ثم شاركت في حملات عصيان مدني سلمي ضمن إطار الحركة العالمية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والمعروفة بالـ«المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات».

 وقد وجهت لها تهم «الحض على التمييز ضد جماعة معينة والإضرار بمصالحها»، حيث القانون الفرنسي يدرج الدعوة إلى مقاطعة بضائع بلد بعينه وفق هذا البند، ولكن المحكمة برأتها. والمضحك اليوم أن مجلس نقابة المحامين في منطقتها يمانع في تسجيلها على لوائح المحامين، رغم شهاداتها الحقوقية العليا وتجربتها التشريعية، لأن «نشاطها النضالي يناقض الوقار والحيادية المطلوبين في المهنة»، على الرغم من وجود محامين صهاينة في فرنسا، نشطين بشكل كبير في كل التحركات المؤيدة لإسرائيل، وهم معروفون كنجوم في هذا المجال. السيدة رفعتْ دعوى.

القصة الثالثة مرتبطة بشكل ما بأجواء القصتين السابقتين، وتتعلق بتأسيس قاعدة لتجريم كل نشاط مناصر لفلسطين، بشمْله هنا في بند «الإرهاب» الذي يفترض أن الاعتداد به قول فصل. وهي تخص زوجاً من المناضلين، عدنان ورانيا. تونسي ولبنانية، لديهما طفلة ولدت في فرنسا. وهما مقيمان هناك ويعملان منذ أكثر من عقدين، هو كطالب ثم كمهندس وهي كطالبة ثم كباحثة، ويدفعان الضرائب ووضعهما قانوني للغاية. إلا أن طلبهما الحصول على الجنسية الفرنسية، فيما شروطها تنطبق عليهما تماماً، رفض تكراراً، وأرسلت إليهما رسائل رسمية مكتوبة وممهورة بأختام الجمهورية تقول إنهما «مناضلان نشطان في البعثات المدنية إلى فلسطين» (وهي هيئة تستقبلها وزارة الخارجية كل حين و«لا تدري كيف تشكرها على ما قامت وتقوم به من جهد سياسي وإعلامي وعملي ضروري»، على حد تعبير ممثلي الخارجية).

 ولأن البعثات المدنية كانت جزءا من التحضير لأسطول الحرية إلى غزة، ولأنها جزء من حركة المقاطعة إياها، فهي صُنفت بحسب وزارة الداخلية الفرنسية (هذه المرة!) كـ«قريبة من منظمة حماس الإرهابية» على ما تقول الرسالة إليهما. بل واعتبر عمل رانية كموظفة سابقة في بعثة الجامعة العربية في باريس كـ«اتصال بممثلية أجنبية».
وهذا كله اعتباط. وفوق ذلك هو مجاني. ما يثير الفضول حول دلالاته

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *