أوروبا انقسمت بين دائن ومدين هذه المرة!

لما كنت من أشرس المدافعين عن الاتحاد الأوروبي الذي يجسد مجتمعاً منفتحاً، أدركتُ أن أفضل مكان يمكن الانطلاق منه هو المكان الذي أنتجت فيه السياسات الراهنة أكبر معاناة إنسانية… من الواضح أن ذلك المكان هو اليونان.

كان الاتحاد الأوروبي عبارة عن “كيان مدهش” وفق توصيف علماء النفس، لأنه كان هدفاً مرغوباً فيه يمكن أن يُطلق العنان لمخيلة الناس. أنا اعتبرتُه تجسيداً لمجتمع منفتح يجمع بين دول تنازلت عن جزء من سيادتها لتحقيق المصلحة العامة وشكّلت اتحاداً لا تفرض فيه أي دولة هيمنتها على الدول الأخرى.

تهدد أزمة اليورو اليوم بتحويل الاتحاد الأوروبي إلى أمر مختلف تماماً. تنقسم الدول الأعضاء بين فئتين (الدائنون والمدينون)، ولا شك أن الدائنين هم الذين يفرضون شروطهم. ألمانيا هي أكبر بلد في الاتحاد وأبرز جهة جديرة بالائتمان، لذا تتفوق على الدول الأخرى. نتيجة السياسات الراهنة، تدفع الدول أقساطاً تحمل مجازفات كثيرة لتمويل ديونها، وتنعكس هذه النزعة في كلفة التمويل عموماً. هذا ما رسّخ حالة الركود في الدول المدينة وجعلها في وضع تنافسي سيئ قد يصبح مزمناً.

هذا الوضع ليس نتيجة خطة متعمدة بل سلسلة من الأخطاء في السياسات المطبقة. لم تشأ ألمانيا أن تصبح المسيطرة على الوضع وهي تتردد في قبول الواجبات والمسؤوليات المترتبة عليها. أنا وصفتُ هذا الوضع بمأساة الاتحاد الأوروبي.

اليوم، برزت بعض التطورات الحديثة التي تعطي بريق أمل. تتخذ السلطات خطوات عدة لتصحيح أخطائها. أنا أفكر بالقرار الذي اتخذته قمة شهر يونيو لتشكيل اتحاد مصرفي وبخطة البنك المركزي التابع للاتحاد الأوروبي كونها تقضي بتدخل غير محدود في أسواق السندات الحكومية. حصلت الأسواق المالية على تطمينات معينة تؤكد أن منطقة اليورو باقية. قد يصبح هذا الأمر نقطة تحول لو طُبّقت خطوات إيجابية إضافية. لكن لسوء الحظ، عزز هذا الوضع رفض ألمانيا تقديم أي تنازلات إضافية.

في هذه المأساة التي أتكلم عنها، يبدو أن الحل يرتكز على الأمل بكل بساطة. ألمانيا مستعدة للقيام بحد أدنى من الأمور لضمان صمود منطقة اليورو. لهذا السبب، أصبحت منطقة اليورو منقسمة بشكل دائم بين دائن ومدين.

إنه احتمال شائن ولا يمكن السماح بحصوله. لا بد من وجود طريقة لتجنبه. في نهاية المطاف، من المعروف أن التاريخ لا يتحدد مسبقاً. حين كان الاتحاد الأوروبي مجرد فكرة مبهمة وكيان خيالي، اعتُبر أداة تضامن. اليوم، تتماسك أوروبا في ما بينها من باب الضرورة فقط. لا يؤدي هذا النهج إلى شراكة متناغمة. لتجنب هذا المصير الحتمي، تقضي الطريقة الوحيدة باستعادة روح التضامن.

ولما كنت من أشرس المدافعين عن الاتحاد الأوروبي الذي يجسد مجتمعاً منفتحاً، أطلقتُ “مبادرة المجتمع المفتوح لأوروبا” وكنت أبحث عن طرق لتحقيق هذا الهدف.

أدركتُ أن أفضل مكان يمكن الانطلاق منه هو المكان الذي أنتجت فيه السياسات الراهنة أكبر معاناة إنسانية. من الواضح أن ذلك المكان هو اليونان. داخل اليونان، تأثرتُ تحديداً بمصير عدد كبير من الوافدين والباحثين عن ملجأ آمن هناك. لا يمكن الفصل بين مصاعبهم ومشاكل اليونانيين أنفسهم. لا شك أن أي مبادرة تخص هؤلاء الوافدين ستعزز العدائية التي يواجهونها من جانب بعض فئات الأغلبية

.
بدت المشكلة عقيمة ولم أتمكن من ابتكار مقاربة مناسبة لحلها. لكني كنتُ في ستوكهولم حديثاً للاحتفال بالذكرى المئوية لولادة راؤول والنبرغ. أدت هذه المناسبة إلى إعادة إحياء ذكرياتي عن الحرب العالمية الثانية: إنها الحدث المأساوي الذي ولّد الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف.

كان والنبرغ بطلاً أنقذ حياة يهود كثيرين من خلال إنشاء منازل سويدية محمية في بودابست. خلال الاحتلال الألماني للمجر، كان والدي بطلاً أيضاً. فهو ساعد على إنقاذ عائلته وأصدقائه وآخرين. وقد علّمني أن أواجه الواقع المرير بدلاً من الخضوع له.

هكذا خطرت على بالي هذه الفكرة: يمكن أن ننشئ منازل تضامنية في اليونان كي تصبح أشبه بمراكز تشمل الجماعات المحلية وتوفر الغذاء والمأوى للوافدين أيضاً. لا تزال الجهود المبذولة في هذا المجال مستمرة حتى الآن، وقد بدأ المجتمع المدني يكثف التزاماته. لكن يبقى نطاق المشكلة هائلاً. أنا أتحدث عن ضرورة تدعيم الجهود القائمة.

لقد انهارت سياسة اللجوء في الاتحاد الأوروبي. يجب أن يتماشى اللاجئون مع قواعد البلد إذا أصبح جزءاً من الاتحاد الأوروبي، لكن لا تستطيع الحكومة اليونانية معالجة الوضع بسهولة، فقد وُضع حوالي 60 ألف لاجئ كانوا يسعون إلى التسجيل في مخيمات اللاجئين حيث الظروف غير إنسانية. يتعرض الوافدون الذين يتجنبون التسجيل رسمياً ويعيشون في الشوارع للاعتداء على يد مشاغبين من منظمة “الفجر الذهبي”.

عبرت النرويج عن اهتمامها بمصير اللاجئين في اليونان وداخل الاتحاد الأوروبي عموماً. وجعلت السويد سياسة التوافد واللجوء على رأس أولوياتها. لذا تُعتبر النرويج والسويد أبرز المرشحين لدعم خطة المنازل التضامنية على أمل أن تنضم إليهما ألمانيا ودول أعضاء أخرى في الاتحاد.

اليوم، توفر منظمة “الفجر الذهبي” خدمات اجتماعية لليونانيين ولكنها تهاجم الوافدين في الوقت نفسه. ستوفر المبادرة التي أقترحها حلاً بديلاً إيجابياً. يجب أن يرتكز الحل على مبدأ التضامن: تضامن الأوروبيين مع اليونانيين وتضامن اليونانيين مع الوافدين. سيكون هذا الأمر إثباتاً قوياً على روح التضامن التي يجب أن تتسلل إلى الاتحاد الأوروبي.

*خبير مالي وفاعل خير أميركي. تم اقتباس التعليقات الواردة من حديث أجراه خلال اجتماع البلديات في معهد “برغرون” في برلين خلال الشهر الماضي.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *