الأردن أمام تحدٍ مصيري

أدى قرار رفع أسعار المحروقات في الأردن، في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني إلى ردة فعل غير مسبوقة من حيث ارتفاع سقف المطالب السياسية للمحتجين، الذين ملأوا شوارع المدن والبلدات الأردنية . ردة الفعل هذه تأتي بالدرجة الأولى عن خشية متزايدة لدى الشرائح الفقيرة ومعها الطبقة الوسطى، من موجة إفقار تتربص بغالبية أبناء الشعب . ورغم أن حكومة الدكتور عبدالله النسور (معارض برلماني سابق) التي مضى على تشكيلها شهران فقط، قد أقرت ما سمي بدعم مالي يغطي الارتفاع في أسعار المحروقات للفئات التي يقل مدخولها عن 800 دينار، إلا أن الجمهور يدرك من خلال الخبرة الحسية أن الغلاء لن يقتصر على أسعار المحروقات، بل سيتعداها إلى سائر الخدمات والاحتياجات الأساسية . حكومة فايز الطراونة السابقة عمدت إلى رفع أسعار بعض المحروقات ولم تلبث أمام النقمة الشعبية أن تراجعت عن القرار، وقد ساد الاعتقاد بعدئذ أن الحكومات اللاحقة لن تُقدم على مثل هذه الخطوة، إلا أن حكومة النسور فعلتها على أبواب فصل الشتاء حيث يتزايد استهلاك الوقود .


عرضت الحكومة على لسان رئيسها أوجه العجز في الميزانية، والمرشحة للتفاقم في حال استمرار أسعار الطاقة للمستهلكين كما هي عليه . غير أن الحكومة تفادت كما حال حكومات سابقة تبيان أسباب هذا العجز المتمادي وارتفاع المديونية إلى نحو 22 مليار دولار، ما يجعل الأردن في مرتبة رابعة بين الدول العربية المدينة بعد لبنان ومصر والسودان . الشرارة التي حركت موجة الاحتجاجات الجديدة، هي قناعة القطاعات الأعرض من الرأي العام أن الحكومات تلجأ إلى تدفيع الشعب ثمن إخفاق سياساتها الاقتصادية والضريبية، بدل مراجعة هذه السياسات وتحميل الفئات الميسورة والأشد ثراء أعباء تصحيح السياسة الاقتصادية، وبينما تحاجج الحكومات بأن الميزانية العامة تدفع نسبة عالية من ثمن المحروقات التي يستهلكها المواطن، فإن المواطن يدفع ضريبة مبيعات على كل السلع والخدمات بنسبة 26 بالمئة، إضافة إلى الضرائب والرسوم الأخرى على الخدمات الحكومية .


حتى صباح السبت الماضي 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ظلت الحكومة متمسكة برفض التراجع عن قرارها وهو المطلب الأول والمباشر للاحتجاجات، واتهمت جماعة الاخوان المسلمين بتجييش الشارع، علماً بأن الاحتجاجات في معظمها شبه عفوية وشبابية ولا طابع حزبياً لها، وفي وقت عمدت فيه العديد من الأحزاب الوسطية إلى تخطئة القرار الحكومي، والدعوة للتراجع عنه وهو الموقف الذي اعتمدته غالبية الأحزاب الأخرى .


من المؤسف أن الحكومة لم تطرح حلولاً أخرى عاجلة للأزمة باستثناء “استدراج” منح ومساعدات من دول شقيقة وصديقة، وكأن السياسات والنهج المتبع منذ 24 عاماً مع تراجع قيمة الدينار إلى النصف أمام العملات الصعبة وبدء التصحيح الاقتصادي، لا تستحق وقفة موضوعية ومراجعة جدية لتبيان أوجه الخلل البنيوي .


على أن هذا المقال لا يبغي الخوض في جوانب الوضع الاقتصادي، بل في المعالجة السياسية المأمولة للأزمة التي تلقي بظلالها الثقيلة على الجميع، وبعد أن بات الوضع العام يشهد انسداداً يخشى معه الانزلاق سريعاً من الأسوأ، وبعد أن باتت هتافات تنطلق بالدعوة لتغيير النظام، وقد سارعت قوى حزبية من أبرزها جماعة الإخوان للتبرؤ من هذه الهتافات، وتجديد الالتزام بمطلب إصلاح النظام .


في واقع الأمر إن المطالبة بحكومات برلمانية (تنبثق من الأغلبية البرلمانية) من المطالب الإصلاحية الرئيسية، غير أنه يقف دون ذلك قانون انتخابي لا يحظى بقبول شعبي ويكرس مبدأ الصوت الواحد، ما أدى إلى حملة تدعو لمقاطعة الانتخابات المزمعة قبل ربيع العام المقبل ،2013 في وقت حقق فيه الحكم بعض المطالب مثل إنشاء محكمة دستورية وإنشاء هيئة مستقلة للانتخابات، وتعديل مواد في الدستور .


الآن وفي سبيل التجسير بين المطالب الشعبية التي تعكس بدء اهتزاز الثقة بين النظام وقواعده الاجتماعية الواسعة، فإنه لا مفر من الإقدام على خطوة جدية وملموسة نحو الإصلاح بتشكيل حكومة ذات ثقل سياسي في الشارع، وتحظى بقبول القوى السياسية والاجتماعية بمختلف تلاوينها . إن التقدم نحو هذه الخطوة لا يكلف الدولة الكثير سياسياً، مقارنة بكلفة انزلاق البلاد لا سمح الله نحو المجهول . لقد كانت خطوة رفع الأحكام العرفية واستئناف الحياة البرلمانية ورفع الحظر عن الأحزاب في العام ،1988 ذات طابع “راديكالي” أكبر بكثير من خطوة منتظرة مثل تكليف شخصية كأحمد عبيدات، الذي سبق له أن أدار المخابرات العامة وترأس الحكومة حتى أوائل ثمانينات القرن الماضي، لكنه منذ نحو ربع قرن انهمك في العمل في مجال حقوق الإنسان وبات شخصية معارضة مستقلة وجريئة وهَجر المناصب الحكومية، وبات يحظى باحترام مختلف مكونات المجتمع السياسي .


بطبيعة الحال فإن نقلة كهذه لن ترتقي إلى مرتبة نوعية، إلا إذا منحت الحكومة المأمولة الحق الفعلي بالولاية العامة، وأذِن لها بتعديل قانون الانتخاب، وتجميد العلاقات مع تل أبيب، وصولاً لإجراء انتخابات نزيهة تشارك فيها سائر القوى والتيارات، وينبثق عنها مجلس الوزراء ورئيس حكومة وفريق حكومي منتخب .


إن تطوراً كهذا من شأنه معالجة الأزمة الاقتصادية من منظور مكافحة الفساد في حلقاته العليا، ووضع مخطط للتنمية الشاملة، وعندها سيكون بمقدور الكتلة الشعبية العريضة تحمل الأعباء، ما دامت هذه الأعباء لا تقع عليها وحدها، بل تشمل كبار الموسرين والمتنفذين الذين ترتسم علامات استفهام كبيرة حول مصدر ثرواتهم الطائلة .

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *