تداعيات جيوستراتيجية للفوضى “الخلاقة”

لا شك في أن التداعيات الجيوستراتيجية للأزمة السورية أخطر بكثير مما كانت عليه الحال التونسية والمصرية والليبية . لقد قام خيار حلف الأطلسي بالتدخل العسكري في ليبيا، على القناعة بأنه لن تكون هناك تداعيات على البيئة الجيوستراتيجية الإفريقية الشمالية . لكن الوضع السوري مختلف لأنه يحمل مخاطر زعزعة الاستقرار الإقليمي المباشر، قبل أن يترك آثاراً على الساحة الدولية برمتها .


لقد نشبت الثورة السورية بالتزامن مع نظيرتها الليبية، لكنها لم تتعسكر إلا بطريقة تدريجية، لتصل إلى ذروتها العنفية في أواسط العام الجاري، حيث أضحى الصراع إقليمياً بامتياز، مع مخاطر تدويل بالمعنى العسكري .


والسؤال لم يعد يتعلق بتداعيات الأزمة السورية على التوازنات الإقليمية، بل بطبيعة ومدى هذه التداعيات، هل ستكون محدودة وآنية أم ستشكل سبباً لزعزعة استقرار الدول المجاورة إلى أمد طويل؟ أو أنها ستؤدي إلى تفجير الملفات العالقة وخلط الأوراق، في انتظار إعادة صياغة المنطقة من جديد، على طريقة “الفوضى الخلاقة” وهو مصطلح ابتدعه المحافظون الجدد في العام 2000 قبل أن يصابوا بفشل ذريع؟


انتشار النزاع السوري في لبنان يبدو واضحاً، وإن كان لايزال محدوداً ومضبوطاً . فمنذ المواجهات في طرابلس في ربيع العام الماضي، مروراً باغتيال اللواء وسام الحسن في الشهر الماضي، وصولاً إلى أحداث صيدا الأخيرة (وهي جرس إنذار بسبب صبغتها المذهبية المعلنة)، يعيش لبنان على إيقاع التطورات السورية، ويبدو أرضاً خصبة لتصفية الحسابات وعرض العضلات وتبادل الرسائل بين أطراف الأزمة السورية .


من جهته لايزال العراق يعيش توترات مذهبية تخف حدّتها وترتفع، حيث إن دعم الحكومة للنظام السوري ينعكس سلباً على علاقاتها المضطربة بالأحزاب والتيارات السنية . أما الأردن فيبدو أنه دخل في نفق اضطرابات داخلية ممتدة تضاف إلى أزمة على الحدود مع سوريا، وعجز عن تحمل مشكلة اللاجئين السوريين التي باتت عبئاً على كل الدول المجاورة .


بدورها تركيا غادرت، على مضض، سياسة ال”صفر مشكلات” مع الجيران، لتجد نفسها في قلب الأزمة السورية مع قصف مدفعي متبادل على الحدود، فضلاً عن الأزمة الكردية التي نجح النظام السوري في إعادة إحيائها عندما قدم مكافأة لحزب العمال الكردي عبارة عن الانسحاب من مناطقه المحاذية للحدود التركية . لقد عادت العمليات العسكرية إلى سابق عهدها في تركيا، مع توترات داخلية هي أصداء للحرب السورية . لكن هذا التحالف بين العمالي الكردي ونظام الأسد الذي سحق “الربيع الكردي” في العام 2004 قد يكلف هذا الحزب غالياً، لأن قسماً كبيراً من الأكراد السوريين يؤيدون الثورة (الرئيس السابق للمجلس السوري عبدالباسط سيدا كردي)، عدا أن السلطات في كردستان العراق (مسعود البرزاني) المعادية لحزب العمال الكردي تميل إلى الثورة أيضاً .


من جهتها مصر لاتزال تتخبط في حبائل التغيير، ولاتزال عاجزة عن سد فراغ إقليمي تجاهد دول عربية أخرى لملئه في مواجهة إيران التي تضع كل ثقلها لحماية النظام السوري من الانهيار، لأن نفوذها الإقليمي الذي بذلت جهوداً حثيثة طويلة لبنائه قد ينهار معه .


أما “إسرائيل”، فتحار إزاء الربيع العربي ونتائجه غير المطمئنة، كما أمام احتمال سقوط النظام السوري الذي وفر لها، طوال أربعين عاماً، هدوءاً وطمأنينة على الحدود معها قد تفتقد إليهما، كما سبق أن حذرها هذا النظام عندما نظم تظاهرة شعبية إلى الجولان، في مايو/ أيار ،2011 قمعتها “إسرائيل” بوحشية .


لقد بات الصراع السوري إقليمياً وأطرافه معروفة، لكنه لم يصل إلى التدويل، رغم الدعم الروسي والصيني للنظام السوري من جهة، والغربي للمعارضة من الجهة المقابلة . والحذر الذي تبديه تركيا، ومن خلفها حلف الأطلسي، أحد أسبابه الخشية من أن تشاهد جنوداً من الروس ينتشرون على الحدود معها في ظرف من الظروف .


وفي الحقيقة، فإنه على خلفية مجلس أمن منقسم على نفسه، وجامعة عربية عاجزة، تقف المنطقة على شفير زلزال . مسائل كثيرة تختلط فتنتج مزيجاً قد ينفجر في أي لحظة: الملف النووي الإيراني ورغبة “إسرائيل” بتصفيته عسكرياً، طموحات إيران الإقليمية المهددة في حال سقط النظام في دمشق، عودة المعضلة الغربية المتمثلة في الخيار ما بين الديمقراطية واستقرار الأنظمة العربية، مسألة وصول الإسلاميين إلى السلطة في دول الربيع العربي واحتمال تكرار التجربة في سوريا، انهيار سياسة “صفر مشكلات” التركية، وعودة المسألة الكردية إلى الواجهة بالعنف والإرهاب، هشاشة الوضع اللبناني والانقسامات الخطرة فيه، التوتر المذهبي في المنطقة . . إلخ . هذا قبل دخول الحرب “الإسرائيلية” على غزة على الخط .


والسؤال: هل ستكون الفوضى السورية “خلاقة” فتشكل مدخلاً لتسوية الملفات الساخنة، خشية تفجرها على رؤوس الجميع (على غرار مؤتمر مدريد في أكتوبر/ تشرين الأول 1991 غداة حرب الخليج الثانية)؟ أو أنها ستدخل المنطقة في نفق مظلم طويل فيتحقق عندئذٍ تهديد الرئيس الأسد بالزلزال الموعود؟


قد لا تحدث التسوية الكبرى (ألم يفشل مؤتمر مدريد؟)، وقد لا تكون هناك فوضى ولا زلزال، لكن من المؤكد أن شرق أوسط جديداً سيولد من رحم الثورة السورية، وإن كانت ملامحه لاتزال غامضة في هذه اللحظة

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *