مصر تبحث عن نفسها
الشعب المصري يصنع تاريخا جديدا. انه يسترد ثورته من «الاخوان المسلمين». انه يواصل الثورة التي بدأها في 25 يناير 2011. انه يواصل الثورة في وجه القوى التي سرقت ثورته وأرادت أن تفرض نفسها عليه.
كان لا بد ان تتفوق مصر على نفسها لتتجاوز السقوط في حفرة حكم «الاخوان المسلمين» لسنوات لم يستطع أحد أن يتصور كم تطول. كان لا بد للشعب المصري أن يؤكد انه يبدأ الربيع العربي الحقيقي. ولهذا كان لا بد ان يبرهن على ان الربيع العربي الذي استولى عليه «الاخوان المسلمون» هو ربيع زائف أدخل هيمنة الدين على السياسة فمنح «الاخوان المسلمين» بطريقة لا تزال غير مفهومة فوزا انتخابيا أحدث انتكاسة للشعب والثورة معا.
في المرحلة المقبلة، من الحتمي أن يكسب الشعب المصري وان تكسب الثورة. لا بد من إبعاد «الاخوان المسلمين» عن فوز انتخابي زائف مرة اخرى، لأنه اذا حدث تكون انتكاسة اخرى للشعب والثورة معا، ويكون تأجيل لا يعرف أحد مداه ولا نتائجه. عندئذ يعود الربيع العربي فيكتسب الطابع الديني المتطرف، يعود نموذج أقرب ما يكون الى النموذج السوري، نموذج القتال المستمر والحرب الاهلية الدامية. تعود مصر للابتعاد عن صورة الوطن ـ أقدم وطن في التاريخ ـ الى صورة وعاء للسلطة يمارس فيه «الاخوان المسلمون» دور الحكام الذين لا تعنيهم مصر ولا يعنيهم الشعب المصري، انما يعنيهم التسلط باسم الدين. تعود قاعدة «طظ» في مصر.
في المرحلة الحالية من الصراع، من الواضح ان الرئيس الاخواني محمد مرسي «لن يتراجع» عن إعلانه الدستوري المستبد الذي يريد فرضه ليحكم حكما مطلقا تغيب عنه الديموقراطية وتغيب الكرامة الانسانية بل تغيب العدالة الاجتماعية.»لن يتراجع» عن فرض دستور يلائم «الاخوان المسلمين» ولا يلائم مصر الثورة ولا يلائم مصر التاريخ المتحول المتقدم المتطور. لذلك يستمر في التمسك بالجمعية التأسيسية للدستور التي طالبت الجماهير بحلها. يتمسك الرئيس مرسي ببيانه الدستوري غير الدستوري الى حد ان يعلن النائب العام، الذي عينه عنوة ضد رغبة السلطة القضائية والقائمين عليها ان الدعوة للانقلاب العسكري على الحكومة (حكومة الرئيس مرسي) «جريمة يعاقب عليها بالسجن، وقد تصل العقوبة الى الاعدام»(…)
ويريد مرسي ان يعطي انطباعا بأن التيار الاسلامي بكل أطيافه يؤيده ويقف معه في معركة الإعلان الدستوري، ولكن الحقيقة تؤكد انه حتى بين أفراد وجماعات الاسلاميين من يرفض هذا الإعلان ويرفض سلطات مرسي القسرية. وعلى سبيل المثال فقد قال الاسلامي عبد المنعم الشحات «لا عصمة لبشر»، وقال الاسلامي (الاخواني السابق) محمد حبيب «ان الانفراد بالقرارات عوار»، وانتقد الزعيم السلفي ياسر برهامي سعي مرسي الى الحصول على سلطات مطلقة باعتباره «خروجا على الدين». كذلك قال الاسلامي محمد عبد القدوس ان «السلطة المطلقة مرفوضة إسلاميا». وكان أبرز الاسلاميين الذين عارضوا السلطات المطلقة التي يسعى اليها الاعلان الدستوري لمرسي ـ والذي أيّد كل خطوات مرسي السابقة ـ المستشار القانوني المرموق ذو التوجه الاسلامي طارق البشري قد أعلن رأيه صراحة بأن «هذا البيان الدستوري منعدم وانقلاب على الشرعية».
لقد تبين ان مرسي لم يستشر أيا من مستشاريه الذين كان قد عيّنهم إثر توليه سلطات الرئيس، الامر الذي استنتج معه الجميع انه انما اعتمد على استشارة قيادات تنظيم «الاخوان المسلمين» ولم يستشر غيرهم. هم اذاً من نصحوه بأن يجمع كل السلطات في يديه وان لا يأخذ في الاعتبار إلا ان «الاخوان المسلمين» وهو أولهم يملكون الاغلبية ويملكون بالتالي الحق في سيطرة كاملة على الحكم.
ولا يعني هذا ان مرسي لم يجد من يؤيده. لقد نظمت جماعة «الاخوان المسلمين» صفوفها وقررت ان تخرج الى بعض الميادين تأييدا لقراراته، ووجد مرسي من المناسب لأهدافه ان يخطب في هؤلاء أمام قصر الاتحادية الجمهوري. وقوبل هذا الموقف منه بالنقد لان المطلوب منه كان مواجهة الرافضين لقراراته والتحصينات التي وضعها أمام هذه القرارات. وقد وصل مدى انتقاد المنظمات الحقوقية لقرارات مرسي الى أقصى مداه، اذ أعلنت 20 منظمة حقوقية ان الاعلان الدستوري الذي أصدره مرسي «يمنح الرئيس سلطات ذات طبيعة إلهية». وبالتالي فقد طالبت هذه المنظمات الحقوقية بإلغاء هذا الاعلان فورا. وكانت المنظمات الحقوقية المصرية أكثر وضوحا في شجب هذا البيان عندما أعلنت «أن الاعلان الدستوري الجديد يوجه ضربة قاضية لاستقلال القضاء… لقد ضرب الرئيس عرض الحائط بأهداف الثورة في إنجاز التحول الديموقراطي، واستغل السلطات الواسعة التي منحها لنفسه بعد فترة وجيزة من انتخابه ليتملّك مزيجا فريدا من السلطات والصلاحيات ويحصّن قراراته من الرقابة القضائية ويغلق الباب أمام الطعون عليها أو معارضتها بالطرق القانونية والقضائية، وكأنه يسعى لامتلاك سلطات ذات طبيعة إلهية لا تسمح لأي شخص أو جهة بالتعقيب على حكمه أو رد قضائه».
في الجو الذي أشاعه إعلان مرسي الدستوري وردود الفعل المعارضة له من جانب الشعب في الميادين ومن جانب المنظمات المصرية لحقوق الانسان وكذلك من جانب الاحزاب السياسية عدا حزب «الحرية والعدالة» الذي تختبئ جماعة «الاخوان المسلمين» وراء اسمه، ساد الشعور الشعبي بأن ميدان التحرير ـ الذي صار رمزا للثورة وجماهيرها ـ أخذ يستعيد أجواء 25 يناير 2011، وبدأت تظهر فيه المطالبات بإسقاط «الديكتاتور». وهي صفة لم تكن قد أطلقت من قبل على الرئيس مرسي.
ولقد فضحت كتابات المعلقين المصريين خروج الرئيس المصري عن الشرعية الدستورية عندما فضحوا
واكتشفوا التناقض بين نص القسم الذي أداه محمد مرسي يوم 30 حزيران /يونيو عندما كان يستعد لتولي السلطة كرئيس للجمهورية ونص الاعلان الدستوري الذي أثار جماهير الشعب المصري. فلقد أقسم الرئيس المنتخب يومئذ على احترام الدستور، وينص هذا الدستور على ان التقاضي حق مضمون ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. وهذا التحصين هو بالتحديد ما لجأ اليه الرئيس في البيان الدستوري الذي أثار موجة المعارضة وأطلق نداءات الثورة من جديد. ينص الدستور الذي أقسم مرسي من البداية على ان يصونه ان القضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا، لكن رئيس الجمهورية أصدر إعلانا منح فيه لنفسه حق التدخل في أعمال السلطة القضائية، فكان قراره بأن تمتنع عن نظر قضايا بعينها كما منعها من نظر أي قضايا تكون مبنية على طعن في أي قرار يصدره.
ان الرئيس مرسي أحرج الغرب الذي سانده وأيده منذ البداية واعتبره ممثلا للربيع العربي. فإذا بالصحافة الغربية القريبة من حكومات الغرب في مواقفها واتجاهاتها تبدي معارضتها لما أقدم عليه مرسي باعتباره «خطأ لم يفت الأوان لتصحيحه» حسب تعبير صحيفة «اندبندنت» البريطانية التي قالت «ان تصاعد العنف بين الجماعات المؤيدة والمعارضة لقرارات مرسي يضع البلاد في قلب الفوضى مرة اخرى». ونقلت الصحيفة نفسها عن كورت ديبويف ممثل البرلمان الاوروبي في القاهرة قوله «ان مرسي يملك سلطات تفوق ما كانت لحسني مبارك… ان طريق الديموقراطية لا يمر قطعا عبر الديكتاتورية». وقالت صحيفة «غارديان» البريطانية ان قرارات مرسي كما تمثلت في البيان الدستوري الذي أصدره «خلقت تناقضا كبيرا بحجم الاهرامات». واتخذت الصحافة الاميركية المنحى نفسه، اذ قالت صحيفة «نيويورك تايمز» ان «قرارات مرسي الاخيرة عمقت الاستقطاب السياسي في بلد منقسم سياسيا على نفسه أصلا بشكل كبير وهو ما بدا واضحا في التظاهرات المؤيدة والمعارضة التي اجتاحت البلاد».
ولقد فسر بعض السياسيين الاميركيين إقدام مرسي على ما أقدم عليه من تحصين لقراراته ضد أي معارضة بأنه انما يرجع الى تأييد رسمي من الجانب الاميركي لهذه الخطوة باعتبارها استمرارا وامتدادا للاتجاه الاسلامي الذي أيدته الولايات المتحدة، ليس فحسب في مصر انما قبل ذلك في ليبيا وفي تونس وتؤيده الآن في سوريا متمثلا في المعارضة. وقد أظهرت الادارة الاميركية في حالة مصر بالذات اهتماما بأن يكون التيار الاسلامي في الحكم قادرا على التعهد بالاستمرار في الالتزام بعلاقات سلام مع اسرائيل. وليس خافيا ان الادارة الاميركية لا بد ان تشترط الالتزام بعلاقات سلام مع اسرائيل من جانب القوى الاسلامية التي تصعد الى السلطة في بلدان عربية اخرى.
من المؤكد ان أنظارا كثيرة ستركز على الموقف الاميركي إزاء تفجر الثورة بوجه الرئيس مرسي في مصر في محاولة لمعرفة ما اذا كانت الولايات المتحدة ستجد من السهل عليها ان تؤيد الثورة أو تواصل تأييد الرئيس مرسي. ولا شك بأن أحداث مصر تضع الولايات المتحدة خاصة أمام وضع بالغ الصعوبة. ان الاختيار بين ثورة الشعب المصري وسلطة مرسي سيكون اختيارا أصعب من ذلك الذي فرض نفسه ابان تفجر الثورة المصرية ضد نظام مبارك
.
تبدو مسالة اسرائيل وتوجهات السياسة الاميركية بشأنها غائبة عن الوعي الثوري المصري في المرحلة الراهنة. ولكن مثل هذا الوضع لن يطول. سيكون التركيز في المرحلة الحالية على ترسيخ الثورة في مصر على إزاحة حكم الاخوان المسلمين. وهي المرحلة التي بدأت بالفعل في الايام الاخيرة وأعادت الثورة الى ميادين مصر كبداية.
وستتلو هذه المرحلة البالغة الاهمية والخطورة مراحل اخرى تهدف الى تحصين الثورة والديموقراطية، ثم مد موجات الثورة من مصر الى بلدان الوطن العربي الاخرى. . في ربيع جديد أكثر جدية واهتماما بتطلعات الجماهير، خاصة الى الديموقراطية والى الدور العربي للثورة.
لا بد بداية من ان نرقب أحداث مصر وهي تبحث عن نفسها.
كاتب سياسي ـ مصر