موسم الانطلاقات
تحتفل معظم فصائل العمل الفلسطيني سنوياً في الشهر الأخير من العام والشهرين الأولين من العام الذي يليه بإنطلاقاتها التي تؤرخ ليوم ميلادها كعنصر فاعل في معادلة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وفي كل حفل كبر أم صغر تسعى لإثبات أنها لا زالت فاعلة على الساحة وغير منتهية الصلاحية. بعض هذه الفصائل يغيب عن المشهد طيلة العام وفي يوم مولده يعمل بجد ونشاط ويستدعي عناصره حتى من إستنكف منهم عن العمل الحزبي ونشاطاته وتبدأ رحلة التزاور وإستحلاب الذاكرة عدا عن التوجه لوسائل الإعلام لتغطية الحفل الحدث في محاولات منها لردم حالة التشرذم والتشظي التي طالت بعضها في محاولة لإثبات الحياة في شرايينها. حركة حماس تفوقت في حفلها الأخير بالنظر إلى السنوات الماضية على سواها من الفصائل في تنظيم الحفل وإدارته فهي إختارت ساحةً عامة مفتوحة كمكان لهذا الحدث وسبقتها في ذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في غزة التي أحضرت المناضلة ليلى خالد لتكون بين رفاقها في غزة وكذلك فعلت حماس التي أحضرت خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي وبعض من أعضاء المكتب في الخارج ليشاركوا حماس غزة عرس الإنطلاقة
. المحاولتان من حماس والشعبية حملتا رسائل عدة أهمها محاولة رأب أي صدع في جسميهما ظهر أم بطن وتأكيد وجودهما وإمكانية تحقيق مكاسب في أي إنتخابات تشريعية كانت أو رئاسية وحتى محلية. أما في الضفة الغربية فبدا من الملاحظ أن معظم الفصائل حتى التاريخية منها تقزم إحتفالاتها في حشر جمهورها في قاعات مغلقة لا تبتعد كثيراً عن إحتفالات السفارات والمؤسسات الأهلية ما يقزم من حضورها في المشهد الحياتي للناس وفي وجدان عناصرها الذين ما أن يخرجوا من الصالة موقع الحدث بعد أن تكون حناجرهم بحت من الهتاف حتى يتفرقوا ولا يجتمعوا مجدداً إلا في العام الذي يليه وقد قل عددهم.
وهذا مرده لعدة أمور قد يقف في مقدمتها: خجل البعض من حجم جمهوره وفي هذا وجهة نظر أخرى قد تكون أوسع من إدراكات منظمي هذه الاحتفالات، فهؤلاء يغيب عن بالهم ما يفعله الإعلام والساحات العامة من إتاحة إمكانية الفرصة لهم لإيصال رسائلهم وفلسفاتهم حتى للمارة الذين تستوقفهم مناظر الإحتشاد في الساحات والميادين العامة ما يمهد لهم إمكانات الاستقطاب وإعادة إسترضاء من غادروا مواقعهم.
ثاني هذه الأمور: ألم يخطر ببال هذه الفصائل أنها ولدت من رحم الشعب الذي إحتضنها تحت أسقف الصفيح في المخيمات وفي الكهوف والمغاور بين الفلاحين أيام العمل الثوري والزمن الجميل وبالتالي فإن القاعات والصالات تبعد هذه القوى عن حضنها الدافيء الذي تدين له بالكثير طيلة عمرها ولم ولن توفيه حقه وتوجد فجوة غير قابلة للردم بين الطرفين خاصةً وأنها ومنذ سنوات آخذة بالتوسع.
وثالثها: مع غياب التوعية والتثقيف الحزبي فإن هذه القوى وخاصة اليسارية والعلمانية منها تفقد من زخمها باستمرار في ظل إفتقادها لآليات ومقومات التواصل مع جمهورها فهي تفتقد إلى المال والإعلام والمؤسسات التي تعنى بالتنشئة والإعداد بعكس القوى الدينية التي تملك وتدير وتشرف على دور العبادة ولعل أكبر النماذج الدالة على هذا الجانب ما حدث في إنتخابات العام 2006 إذ إستثمرت حركة حماس منابر المساجد ووجهت خطاباً يستند إلى القناعات الإيمانية طاول وطال المواطنين في سن الشيخوخة بصورة مركزة وهم يعدون حوالي ربع المجتمع الفلسطيني فطرحت شعار “صوتك أمانة تسأل عنه يوم القيامة” وبحسب الدراسات التي أعقبت الإنتخابات كان لهذا الشعار أثره السحري على الكثيرين من هذه الفئة الذين يشعرون بأن منيتهم إقتربت.
كما وجهت شعاراً أخر إستهدفت به الشباب وعلقته لافتات على الشوارع الرئيسة كان مضمونه ” أمريكا وإسرائيل تقولا لا للإسلام فماذا تقول أنت” وهذا كان له أثره فصوت الكثيرون لها نكاية بأمريكا وإسرائيل.
وهذا ليس إنتقاصاً من حماس وقدرتها على إدارة معركة التعاطي مع الجماهير بقدر ما هو إقرار وإعجاب بقدرتها على العمل في صفوف الأصوات العائمة التي تعد الأكثرية الساحقة في الشارع الفلسطيني فهي لم تخاطب جمهورها الذي كان معها وصوته لها بعكس الآخرين الذين كان عليهم إعادة العمل مع جماهيرهم الغاضبة والمستنكفة.
وفي الصالات المغلقة يضيع التفاعل ويدخل الملل في نفوس الحضور الذين يغادر معظمهم قبل الإعلان عن إنتهاء الحفل والسبب هنا يعود إلى رتابة الأمر برمته، كلمات مملة ومنمقة تغيب عنها أجواء الحماسة التي كان جمهور الساحات العامة يعطيها الحيوية بهتافاته وأهازيجه وأغانيه الثورية التي تشد الحضور وتعيدهم إلى أيام العمل الحزبي والثوري الحقيقي.
كثر هم المناضلون الأوائل الذين تلتقيهم في الشوارع ويأبون الذهاب إلى قاعات إحتفالات الفصائل التي سلخوا أجمل سنوات عمرهم في صفوفها ودفعوا ضريبة إنتماءاتهم دماً وألماً وأجزاء من أبدانهم وعند سؤالهم لماذا لا تشاركوا رفاقكم وإخوتكم أعراس إنطلاقاتهم يجيبونك بكلمات قليلة ودالة وعميقة:
ما لهذا إنتمينا وناضلنا وما كنا نتخيل أن نصل اليوم الذي يجلس فيه أصحاب الياقات وربطات العنق الجميلة في المقدمة مع حراسات تمنعهم عن رفاق السلاح والموقف، ويزيد بعضهم بالقول: إن المقاعد الأمامية ليست لهم ولا المنابر حتى أنها للعامة للأسرى وذوي الشهداء والجرحى المعوقين. نعم نخشى أن نصل إلى اليوم الذي تكون فيه حفلات الإنطلاقة تعقد وتقام برعاية محسن أو ثري أو شركة أو حتى دولة أو أصغر من ذلك “مشيخة”، ونخشى أن نرى رايات الفصائل أطيح بها وحل مكانها لافتات وصور الراعين للإحتفالات وأن تبدأ الكلمات بالمديح والشكر لمن وفر دعم الحفل وربما ستكون هذه الإحتفالات برعاية وكالة التنمية الأمريكية يوماً ما .
إذا كانت فصائل وقوى الشعب الفلسطيني تتغنى دوماً بأنها من الشعب وله فلترحمنا في إحتفالاتها ولتعد المسيرة إلى سيرتها ومسيرتها الأولى ولترحم أذاننا من تنظيرات المتحدثين ولتعطي الكلمة والمقام بالحد الأدنى لفرق الأغنية الوطنية الملتزمة التي تجذر في الوجدان الحق في الوطن كل الوطن ويكفي أن نستمع لكلمتين سياسيتين