الإرث العثماني والانتفاضات العربية
كما النظام الأرستقراطي الأوروبي في القرون الوسطى، فإن نظام المِلَّة العثماني، (بكلمات الكاتبة صفية سعادة)، »يحدد الانتماء على أنه انتماء ديني في الدرجة الأولى، وله الأفضلية القانونية، وبالتالي الحقوقية لكل أتباع السلطنة العثمانية . وليس مبالغة القول ان العرب هم أكثر الأمم التي خضعت لهذا النظام العثماني تضرراً، إذ بينما تخلصت من إرثه أمم أخرى، (وبينها الأمة التركية)، بإقامة دولة – الأمة الديمقراطية المدنية الحديثة، فإن استقلال الدول العربية تباعاً في منتصف القرن العشرين المنصرم، لم يفضِ إلى تخلُّصِ أنظمتها السياسية تماماً من إرث هذا النظام، ذلك أن دول الاستعمار الغربي لم تكتفِ بتقسيم الوطن العربي واستعماره، وبالتالي إفشال محاولة العرب إقامة دولة – الأمة، بل، حافظت أيضاً على نظام الملة العثماني هذا، ورسخته كأداة لبث الفرقة وإشعال الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية التي تيسِّر السيطرة على المجتمع العربي وتمنع إعادة توحيده، وتحول دون تنمية وتعزيز اللحمة القومية والوطنية بين أبنائه . ولعل نظرية الولايات المتحدة عن »الفوضى الخلاقة«، ليست سوى ترجمة جديدة لما نصح به قديماً رئيس وزراء »بريطانيا العظمى«، ونستون تشرتشل، حيث قال: »إذا لم تتمكنوا من الهيمنة على منطقة، بادروا إلى تجزئتها« .
والأدهى، فإنه، وعلى الرغم مما تقدم، فإن تيارات »الإسلام السياسي« على ما يبدو، مازالت تتمسك بأجزاء من، (وبعضها بكل)، تصورات نظام المِلَّة العثماني هذا . يشي بذلك أنه ما إن تحقق، (جزئياً طبعاً)، هدف »الشعب يريد إسقاط النظام« الذي نادت به الانتفاضات الشعبية العربية، حتى فرط تيار »الإسلام السياسي« ائتلافه مع تيار »القوى المدنية«، ما يؤكد أن لجوء تيار »الإسلام السياسي« إلى هذا الائتلاف كان مجرد تكتيك اضطراري فرضه احتشاد الجماهير المنتفضة بالملايين في »الميادين«، وأنه جاء دون موافقة هذا التيار على أن النظام السياسي الجديد المراد بناؤه، وفقاً لمطلب الانتفاضات الشعبية، يشتمل، في ما يشتمل، على بناء »دولة مدنية«، أي دولة لا توازي، ولا تعلو على، سلطتها، أية سلطة أخرى، فردية كانت أو دينية أو طائفية أو مذهبية أو إثنية أو جهوية . ما يعني أن مشوار هذا المعنى من التغيير المنشود للانتفاضات الشعبية العربية ما زال طويلاً وشائكاً ومعقداً، لأنه لا يصطدم بعائق التدخلات الغربية بقيادة الولايات المتحدة فقط، بل، يصطدم أيضاً بعائق أن حركات »الإسلام السياسي« الفائزة لتوها بالسلطة، مازالت تصر على اشتقاق التصورات الدستورية لعلاقة السلطة بالدولة من تصورات نظام الملَّة العثماني إياه الذي حافظت عليه، ورسخته، وما انفكت تعمل على تكريسه، دول الاستعمار الغربي إياها، وإلا لكان بلا معنى عدم اتفاق، (كي لا نقول صراعاً)، قوى »الإسلام السياسي« مع »القوى المدنية« على مضامين مشاريع الدساتير في مصر وتونس وليبيا، (مثلاً) . هنا تجدر الإشارة إلى أن مفهوم »الدولة المدنية«، وهو مفهوم حديث للدولة على أية حال، لا يتعرض من قريب أو بعيد لموقع الدين ومقامه، بل للموقع والمقام اللذيْن منحتهما الأنظمة القديمة للدولة، (ومنها نظام الملة العثماني)، من سلطة لا متناهية لرجال الدين، لتتحول اهتماماتهم بذلك من روحية إلى سياسية اقتصادية،أي ليتحولوا إلى سلطة موازية لسلطة الدولة .
ومن باب التدليل، فإن من إنجازات الثورة الفرنسية، أنها أرست نظاماً سياسياً جديداً أنهى سلطة رجال الدين الموازية لسلطة الدولة أو المتحالفة معها، عبر نقلِ الدين، (وليس عبر محاربته)، من الحيز العام إلى الحيز الخاص، وجعْلِه مسألة خاصة، أي فردية، كمفهوم اقتضاه نشوء »الدولة- الأمة« الديمقراطية المدنية الحديثة الجامعة لدويلات الأمة الواحدة، (ذات الأديان والطوائف المختلفة)، في دولة واحدة بنظام سياسي يساوي بين مواطنيها كأفراد أحرار بمعزل عن انتمائهم الديني والطائفي والمذهبي والإثني والجنسي . بهذا الإنجاز تخلصت أوروبا من إرث النظام الأرستقراطي للدولة في العصور الوسطى، القائم على تحالف سلطة الدولة وسلطة رجال الكنيسة الموزعة على طوائف مختلفة متحاربة، حيث كان هناك لكل فئة دينية قانون يحكمها .
لكن هذا النظام الحديث للدولة، لم يولد دفعة واحدة، ولم يتخذ تماماً الشكل الفرنسي لولادته، لا في العالم عموماً، ولا حتى في معظم دول أوروبا خصوصاً، ارتباطاً بحركة، وبطبيعة، القوى الاجتماعية والسياسية المنخرطة في النضال من أجله، بل، ولا يزال يشهد لحظات مدٍ وجزر . فإنهاء الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، (مثلاً)، لم يتجاوز في بدايته حدود الحل القائم على مفهوم »التسامح المتبادل«، بل، إن هذا الحد الأدنى من الحل هو الصيغة السائدة حتى اليوم في مجتمع الولايات المتحدة، كمجتمع تشكَّل من هجرة طوائف عانت اضطهاد سلطات دول أوروبية عدة آنذاك .
وبالعودة إلى الحالة العربية، فقد شكل ترسيخ نظام الملة العثماني على صعيد المجتمع وإدارة الدولة، أداة أساسية من أدوات تدمير المجتمعات العربية، وتغذية الفتن بين أبناء شعوبها، واستتباع دولها ونهب ثرواتها، وعائقاً أساسياً في طريق تحولها إلى دول ديمقراطية مدنية حديثة، بسبب تحويل انقساماتها الأفقية الطبيعية إلى انقسامات عمودية، تمنع بناء المفهوم الحديث للمواطنة الذي دون بلوغه يغدو عبثياً الحديث عن إنهاء سلطات رجال الدين والطائفة والمذهب والجهة الجغرافية والأصل الإثني، كسلطات موازية لسلطة الدولة المضطرة والحالة هذه، إلى مراعاتها والتغاضي عنها، بل، والخضوع لمشيئتها أحياناً . ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن دول الاستعمار الغربي لم تخترع الانقسامات العمودية في المجتمعات العربية، إنما استخدمت، وغذّت، ولاتزال، ما خلقه نظام الملة العثماني البائد . وهذا هو ديدنها